برد استكهولم وتراكم الثلوج في بعض جنباتها لم يخف جمالها المعماري ولا أناقتها الحضارية البارزة ولانظافة شوارعها وهي التي تتكيء على عدد من البحيرات تتعايش مع ضبابها وسككها الحديدية وشوارعها القديمة والتي سبقت أوربة في حداثتها وان كانت اليوم قد تخلفت عنها في تحديثها , فالسويد كما حدثنا أهل السويد من أهلنا هي دولة صامتة لم تدخل الحرب العالمية الثانية ولكنها استفادت منها ببيع الأسلحة والعتاد والعتد الى كل الأطراف المتحاربة , فلم تدمر مدنيتها بل انتفخت خزائنها بأموال هائلة جعلتها أكثر دول العالم تقدما وحضارة , ولاأقول أغنى دول العالم فكلنا يعرف كم من دولةٍ غنية ٍ أموالها حكر على بعض الجيوب وأرضها وشعوبها ترزح تحت نير التخلف والشرذمة وسفاسف وقشور الثقافات المستوردة! لفت نظري في سكان العاصمة السويدية خلال هذه الأيام الأربعة التي قضيناها فيها في ظل المؤتمر الرابع والعشرين للرابطة الاسلامية في السويد , لفت نظري الهدوء الكبير جدا والذي يتمتع به القوم , وصدق من قال ان الثقافة سلوك حضاري , هدوء في طريقة الكلام , هدوء في أسلوب المشي , هدوء في التعامل مع الآخرين , لم يكن صحيحا هذا الذي قاله لنا بعض الاخوة لدى استقبالنا بأن أهل السويد أقل عنصرية, لم يكونوا على الاطلاق ممن يرضى بالأجانب أو يغضي الطرف عنهم خاصة وأن المحجبات كنّ يتواجدن بكثافة مرتفعة في مركز المدينة الصغيرة أيام المؤتمر وهن يتنقلن بين مسجد استكهولم وبين المركز الثقافي الذي جُعل مقرا لذلك المؤتمر , لم يكونوا أقل عنصرية من أصحابنا أهل اسبانية من حيث أتينا , ولكنهم كانوا أكثر أناقة في إبداء عنصريتهم نحونا!.
الأناقة كانت الطابع الأكثر لفتا للنظر في كل شيء في استكهولم , الأبنية , الشوارع , سلوك الناس , لباسهم البسيط اللطيف هادئ الألوان , حركاتهم , طريقة تناولهم الطعام , الأصبغة التي تضعها نساؤهم على وجوههن , وحتى طرق تصفيفهن لشعورهن , معاملة رجالهم لنسائهم في الأماكن العامة , طريقة تعبيرهم عن الخوف العميق الذي انتابهم لدى رؤيتنا- أنا وأولادي الارهابيين - في طابور الدخول الى الطائرة للاقلاع نحو مدريد, كل شيء في استكهولم كان هادئا وأنيقا بطريقة حضارية متميزة طالما يحاول الاسبان تعلمها وبدأب عن طريق بث حملات تربوية دعائية في التلفزيون الاسباني لكي يتعلم الناس في اسبانية السلوك الحضاري في الحديث بصوت منخفض وفي الحوار دون غضب ورعونة ورفع للصوت والأيدي وربما الأرجل! كما هو الحال في بلادناالأصلية التي تعاني من شقاق نكد بين سلوكيات شعوبها وبين التعاليم الأصلية التي تتكيء عليها الحضارة العظيمة التي قامت عليها اصلا هذه الأمة وهذه البلدان..وصدق من قال: في أوربة مسلمون ولااسلام , وفي بلادنا اسلام ولا مسلمين!.

الذي لفت نظري وكثيرا أثناء هذه الأيام الأربعة هو تطبع أبناء كل جالية عربية ومسلمة بأخلاق الأرض التي حلّوا فيها مهاجرين وذلك على الرغم من قواسم عربية عامة مشتركة تتعلق بمشكلات الجاليات العربية مجتمعة وخصائص كل منها منفصلة , الجالية العربية في السويد متنوعة الى درجة كبيرة جدا على قلة عددها مقارنة بالجالية في اسبانية , أعداد القادمين من السودان والصومال وأرتيريا كبيرة جدا بالنسبة الى تعداد الجانب والفرق الهائل في طبيعة المناخ بين افريقية وشمال أوربة , لكن هناك سوية ثقافية لابأس بها بين أفراد الجاليات الذين التقيت بهم في هذا المؤتمر ولعل السبب الرئيسي في ذلك يعود الى تشجيع الدولة للدراسة ونيل العلم وتسهيل عمليات معادلة الشهادات الأجنبية وتخصيص معاشات خاصة للطلبة طيلة فترة دراستهم في الجامعات وهو شيء لانعرفه أهل اسبانية من العرب والمسلمين المهاجرين!.
الجالية العربية المسلمة في السويد أو على الأقل الشريحة التي التقيناها في هذا المؤتمر كانت تبدي سلوكا انضباطيا كبيرا جدا , ورغبة في العمل وبذل الجهود , وان كانوا كغيرهم من أبناء الجاليات العربية في الغرب يعانون من نفس الأمراض التربوية التي حملناها معنا وتفرقنا بها في أنحاء الأرض نصارع الحياة وتصارعنا أملا في الارتقاء فوق هذه الأثقال الثقافية التي ترهق العرب في كل مكان وتجعل منهم عبئا على الآخرين كما تجعل من ثقافتهم عبئا عليهم لدى التعامل مع الآخرين خاصة فيم يتعلق بقضية تقديم الاسلام الى هؤلاء الآخرين.

محورين رئيسيين تدور حولهما كل مشكلات هذه الجاليات بعيدا عن تعقيد الأمور الرسمية المتعلقة بالهجرة والحصول على الاقامات والى غير ذلك ممازاد تعقيدا وصعوبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي فرضت نفسها على كل شاردة وواردة في كل مايخص الوجود العربي والاسلامي الانساني في الغرب , هذان المحوران هما وضع المرأة, ومشكلات الشباب .

المرأة..المرأة ..المرأة , وكأنه لاهمّ ولابلوى للعرب والمسلمين في هذه الأرض كمصيبتهم في وضع المرأة في مجتمعاتهم وأخلاقهم وسلوكهم ؟ أحوال النساء العربيات في السويد لاتختلف في شيء عن أحوالهن في كل البلاد العربية وفي كل مكان يتواجدن فيه على سطح هذه البسيطة ! وذلك على الرغم من أن المرأة المسلمة في استكهولم وصلت الى برلمان محافظة العاصمة لتكون عضوا فيه وبحجابها, وهذا هو حال السيدة لمياء العامري التونسية الأصل والتي تمثل صورة مشرقة لوضع المرأة المسلمة في دول الاتحاد الاوربي من حيث التسامح الديني وقبول الآخر وتحقيق القيم الديمقراطية بأبهى صورها وأصدق ادعاآتها , وهو شيء يصطدم تماما مع ماتنوي الحكومة الفرنسية طرحه على الساحة من قوانين تتدخل فيها في قضية الحجاب لدى الطالبات المسلمات .
ولهذه المفارقة حكاية طويلة قد نسردها ان شاء الله في الاسبوع القادم!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية