أيها الفلسطينيون الممتحنون بالسلب والصبر والدم والصمت والكساح العربيين , عذرا ألف عذر , لأننا تركناكم وحدكم هناك في ساحات الشرف وانسحبنا من المعركة , عذرا لأن إخوانكم في مقاطعات هذه الأمة الثلاثة والعشرين فُجعوا في كرامتهم وأوكلوا إليكم وحدكم مهمة الدفاع عن وجودهم.
عفوا لأنكم تجاهدون في معركة الحق ونحن نغرق في الفتن , ولأنكم صامدون في ساحات النور والضياء ونحن نختنق بالعفن , عفوا لانكم وحدكم المنافحون عن التاريخ والمستقبل ونحن في تمزقنا ودعواتنا الطائفية والانفصالية والخوارجية نتخبط كالحمقى ونلقي بأنفسنا الى موت ٍ ذليل ٍ , وأنتم وحدكم هناك المرابطون ..من جراحكم تنبعث ريح المسك لأنكم وحدكم القابضون على الجمر في مثل هذه الأيام الحالكات .
عذرا لأننا نأكل وننام ويقتلنا السأم والهرولة وراء الأوهام والأحلام , عذرا ألف عذر لأننا محسوبون عليكم عربا ومسلمين , عذرا لأننا نعيش على حساب قضيتكم , ونقتات من دمائكم , ونلعق دموعكم , عذرا لأننا جعلنا من آلامكم مشجبا نعلق عليه كلّ انحطاطنا وسقوطنا وانتكاسنا وارتكاسنا.
وعذرا على الرغم من دعوتكم التي يطلب الينا فيها بعضكم أن نخرج من ذاكرتكم , عذرا لان كلماتكم هذه أقل مما نستحق , وأهون من مصيبتنا في انفسنا , وأصغر من جريمة صمتنا وسكوتنا .
هل تريد ان تعرفوا أين هم العرب اليوم ؟ أين هم هؤلاء الذين مايفتؤون يصبّون جام غضبهم على حكامهم ليُبرؤا أنفسهم من دمكم ومن كل دم ٍ مسفوح ٍ بين يديّ عجزنا عن حياة ..مجرد حياة , وأمام حماقاتنا البالغة في فهم ملابسات التاريخ وفقه الدين الذي نتمسح به وفقط للتعبير عن شهواتنا المتأججة في سفك المزيد من الدماء غير الطاهرة على مذابح غير طاهرة ؟؟ , هل تريدون أن تعرفوا أين هم العرب والمسلمون ؟ ولماذا تركوكم وحدكم هناك في عراء هذه الصحراء الموحشة تضييعاً وقهراً , مع العقارب المتوحشة تنهش لحوم اطفالكم والآلام المفترسة تمزق قدرتكم على مواصلة الطريق.
انهم في كل مكان سدّوا منافذ التنفس , وانهمكوا في التكاثر بالقاذورات , واستساغوا الموات , وخافوا ضرب هراوتين على رؤسهم , وسجن شهرين أو رصاصة طائشة قد تصيبهم في مظاهرة او اعتصام , وجبنوا أمام مجرد تصور الاعتقال وشيء من الاستجواب وشيء من التعذيب , كيف لا ؟ وكُلهم في بيوتهم سجّانون مُستَجوبون مختصون في فنون تعذيب الزوجات والأولاد وكل من ابتلاه الله بوصايتهم عليه !! .
انهم في المقاهي القذرة يُدخنون نرجيلة العجز والعقم , في الشوارع الخلفية لتاريخ ٍ يصنعه الآخرون ,بينما هم جلوس يمضغون القاتّ والحشيش ويتفرجون.
نصبر ونقلب أعيننا في السماء استمطارا للفرج وقد مرت خمسون عاما ونحن ننتظر , ولم تحدثنا أنفسنا فيها بحفر بئر في الارض يروي بمياهه عطشنا , وكأنه لاأمم غيرنا قد امتُحنت , ولاأحد غيرنا قد ابتُلي بالاستبداد والاستعمار , وكانه لاأحد غيرنا قدم حفنة من الشهداء , وهانحن منذ هاتيك الايام نجترّ نفس الأسماء ونقتات نفس الأحداث ونعيش على نفس الذكريات.
أتريدون ان تعرفوا من نحن ؟ نحن المنخذلون المُخَذِّلون نحسب كل صيحة علينا العدو , المتقاعسون المثّاقِلون الملتصقون ببطوننا بالأرض زاحفين فوق أمجادنا الغابرات ,العاجزون عن قول كلمة حق , المتنكبون عن أي حركة تحررنا من أسر ِ كلّ هذه القيود التي تربطنا وتكبلنا حتى لنبدو فيها أننا الاسرى وأن الذين قضوا أعمارهم في سجون الظلم هم الاحرار .
استكنّا لانظمة استعبدتنا , ولعادات ٍ وتقاليد دمرتنا , ونحن نعاني أزمة خطيرة في الرجولة , من نعرفهم من رجالنا كلّهم اما عُلِقوا على مشانق ارهاب الدولة , أو غُيّبوا في المقابر الجماعية التي فتحت افواهها الغولية لابتلاع كل من تجرأ ليس على قول كلمة ٍ وحسب , وانما كل من سوّلت له نفسه تسديد نظرة لظالم حتى لو كان رجل أمن لايساوي قيمة السترة العسكرية التي يرتديها , وأما من تبقّى من رجالنا فقد هاجروا أو هُجروا , وهناك _ هنا _ في الغربة ذبحهم ذل البحث عن الهوية , وأصابهم يأسهم من أوطانهم بالإحباط .
اما عن أولئك الذين تكتظ بهم أسواقنا وتعلو أصواتهم ويحسبهم الظمآن ماء , أما البقية ممن نعرف ولا نعرف فاسأل عنهم جبارين عصاة أبطالٌ في غرف التعذيب المخفيّة وراء أستار البيوت , يبحثون عن حقوقهم الشرعية في ضعف نسائهم وغياب النصير , ويستعبدون أبناءهم باسم الطاعة العمياء وأنت ومالك لأبيك , منهمكون في حلقات العلم في تفنيد القول في قصّ المرأة لشعرها , وحكم خروجها من بيتها لزيارة اهلها , وفقه الحيض والنفاس , ومعاني تأديب الرجل أهل بيته ..وهنالك ومنذ قرون وقفت بهم عبقريتهم الفقهية وهنالك انتهى بهم الطواف !!.
عن ماذا أحدثكم ..عن جرأتنا الكلامية في "الجزيرة " , , أم عن بطولاتنا منقطعة النظير في السباب والشتائم وتعليق كل المصائب على عواتق حكامنا ونحن أشد ظلما منهم وجورا وخورا ,عن ماذا أحدثكم ؟ عن الأنانية والكذب والنفاق وتضييع الاعمار في التفاخر والتنافس على القمامة , وقيل وقال , أم عن انهيار عملية التربية والتباس معاني الأخلاق .
لقد نكأ جراحنا من دعانا منكم الى الخروج من ذاكرته! , وقال عظيما ,أعظم مافيه أنه كلمة حق عند أمة تنتحر , أمة ارتاحت من عناء الشعور بالذنب والبحث عن الذات , واكتفت بملذات الساعة , والرضى بالأمر الواقع .
اننا مرضى حتى النخاع , السلّ لايصيب الرئتين فحسب , السلّ ينخُر في سلوكنا وافكارنا وقناعاتنا وصياغة شخصياتنا.
ولكننا وعلى الرغم من ذلك نرجوكم أن لاتخرجونا من ذاكرتكم , لأننا ان خرجنا منها سنبقى على قارعة طريق "القضية" أكوام من الحثالة والقاذورات , ولاتطلبوا الينا أن لانذكركم أمام أطفالنا , فإنه الأمل الوحيد وأضعف الايمان الذي تبقى لنا , أن ننقل هذه الامانة التي عجزنا عن حملها إلى الجيل الآتي , لعله يكون أكثر صحة وسلامة وشرفاً منا , ولعله يستطيع أن ينقل المعركة من داخل البيوت والأسر إلى ساحات الشهادة والجهاد والكرامة , ولعله أن يتغلب على قدره في قمع النساء وشلّ قدرة أطفال هذه الامة على التغيير , ويتعافى من ازدواج الشخصية , واستفحال داء الساديّة بين جنبيه , ويكون أكثر قدرة على خطوة ايجابية تغسل عارنا , وهو يفكر في البناء لافي الهدم وفي المستقبل لافي الماضي , وفي الحرية لافي قدرته في اثبات رجولته في معارك مع الطواحين الهوائية.
لاتمنعونا من أن نحمل ألم فلسطين , وننقله إلى أبنائنا , فانه الاستغفار الوحيد الذي بقي لنا في زمن الكفر والجحود والأخطاء والذنوب التي لاتغتفر.
أيها الفلسطينيون ..اقبلونا في ذاكرتكم , لاتخرجونا منها على الرغم من عقوقنا وسوء أدبنا ,..أبقونا في ذاكرتكم , على هامش وجودكم , لعل ذلك يمنحنا بعض الطهر وبعض الكرامة , وياأهل فلسطين ..محنتكم أكبر من الكلمات , وعجزنا أشدّ هولا من الهول , ونحن لانملك إلا أن نعتذر منكم عن عجزنا , فعذرا ..ألف عذر , وعفوا ألف عفو , لأنكم أنتم أنتم ..ونحن نحن.