يتحدث من يحسن اللغة الإنجليزية، والفرنسية، وغيرهما من اللغات الأوربية عن السهولة في قراءة نصوص تلك اللغات، وأنَّ الطفل الذي درس تلك اللغات لا يتردد، ولا يتلعثم في قراءة نصٍّ من نصوص تلك اللغات، بل يقرؤه كما يقرؤه غيره من الأساتذة، بفضل علامات الترقيم.
وهذا بخلاف قارئ النصِّ العربيِّ، فإنه يقرأ، دون أن يعرف أين يقف، ودون أن يكون هناك اختلاف في نبرات صوته، غير مفرق بين نصٍّ إنكاريٍّ، وآخر استفهاميٍّ، وآخر تعجبيٍّ، وكثيرا ما يصل رأس الجملة التالية بذيل الجملة السابقة. لقد كنت أسمع لقارئ يقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. (النور:58). فقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} بِنَفَسٍ واحدٍ، ثم قرأ: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ}. هكذا يسير في القراءة، كأنه هائمٌ في صحراءَ دون علامات، ويسير في شوارعَ دون إشارات، فأجهده السير، وانقطعت أنفاسه، دون أن يُعطي للنداء حقَّه، ولِنَوعَي المطلوب منهم الاستئذان تنويعَهم، وأضاع تفصيل الكلام المجمل، بل شوَّه النصَّ ومسخه، وأضاع حلاوته، وفتَّتَ معناه.
لكن لو كان هناك علامات ترقيم، لما تَعِبَ هذا القارئ هذا التعب، ولما أضاع على السامع المعنى، وحلاوة التقسيم.
وهذا يذكرني بخطأ وقع فيه إمامان من أئمة النحو العربي، حيث وقع كلُّ واحدٍ منهما في رواية بيتٍ من الشعر خطأ، أولهما العالم النحوي الكبير ابن فارس، فإن هناك بيتاً من الشعر مشهوراً هو:
ولا يُقِيمُ على ضُرٍّ، يُرَادُ بِهِ إلا الأذلان: عَيْرُ الحيِّ والوتدُ
فرواه ابن فارس:
ولا يُقِيمُ على ضَرِيرٍ أدَّبَــه إلا الأذلان: عَيْرُ الحيِّ والوتدُ
وقال الفرزدق:
وكُلُّ رفَيقَيْ كلِّ رَحْلٍ ـ وإنْ هُمَا تَعَاطَى القَنَا قَوْمَاهُمَا ـ أخَوَانِ
ومعناه: أن كل اثنين يترافقان في مكانٍ مَا فَهُمَا أخَوَان، وإن كانت الحرب تدور بين قَوْمَيْهِما. فروى ابن هشام الشطر الثاني هكذا:
تَعَاطَى القَنَا قَوْمَاً هُمَا أخَوَانِ!
لقد نزل القرآن الكريم، وكتب بالحروف العربية: بالخط، والطريقة التي كانت تكتب بها العرب، وكان رسم الحروف في ذلك الوقت يختلف عن رسمها في هذا العصر، وعصور أخرى مضت، ولم يكن العرب يعرفون نقط الحروف، ولا حركات الإعراب، والبناء.
وإذا كان العلماء قد اختلفوا في حكم مخالفة الخط العثماني، وكتابة القرآن الكريم وفق الإملاء الحاضر، فإنهم لم يختلفوا في خدمة القرآن الكريم، من حيث : تنقيط المصحف، وتشكيله، كما لم يختلفوا في وضع علامات الوقف التي نراها في نهاية بعض الكلمات، للدلالة على وجوب الوقف، وامتناعه، وجواز الأمرين مع ترجيح أحدهما.
إننا لو عدنا إلى الآية التي تقدمت لوجدنا أنَّ تلك النقط ـ مفردة ومثناة ومثلثة، فوقَ حروفٍ وتحتَ أخرى ـ وعلامات التشكيل التي أمامنا، هي دخيلة على المصحف الذي كان على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وصحابته، وهذه الحركات حين أدخلت على المصحف لم تكن بهذه الصورة، بل كان الشَّكْلُ نقطاً : فكانت الفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة نقطة على آخره، والكسرة نقطة تحت أوله، وكانت تكتب بالمداد الأحمر. ثم تطور الشكل في عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي على هذا الشكل الذي نراه، ثم أضافوا، فقسموا القرآن الكريم إلى أجزاء، والأجزاء إلى أرباع.
فالعلماء السابقون خدموا القرآن الكريم بما تقدم من تنقيط، وتشكيل، لتسهل على القارئ القراءة، ولم يروا حرجا في إضافة أشياء لم تكن، ما دامت لا تضيف إلى القرآن الكريم كلاما غير موجود، وتحافظ عليه خاليا من التحريف والتبديل.
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا نتابع أعمال السابقين، ونمضي في خدمة هذا القرآن، بما يساعد على قراءته قراءة، تساعد على فهم معانيه، التي هي المقصود الأصلي منه، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ؛ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29)؟
لماذا لا تكتب هذه الآية هكذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ، ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}؟
وعلامات الوقف الموجودة لا تكفي لمساعدة القارئ، بل إنَّ كثيراً من القُراء أساؤوا فهمها، فإذا وقف وقفة قصيرة دون وجودها أعاد ما قبلها، إعادة غير مجدية، بل ومسيئة إلى المعنى أحياناً.
أعتقد أنه ينبغي أن يدرس علماء هذا العصر إضافة علامات الترقيم في كتابة المصحف، خدمةً لكتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وينبغي ألاَّ يتوقف الزمن عند خدمات السابقين، بل نتابعهم في كل ما يخدم كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مما يساعد على فهمه، وحسن قراءته، من غير أن يكون وسيلة إلى تحريفه.
وأعتقد أنّ كتابةَ القرآن الكريم على هذه الطريقة ستكون خطوة موفقة، وإضافة مباركة، يقدمها علماء هذا العصر لقُرَّاء القرآن الكريم.