كنت أجلس مستمعًا لندوة على إحدى القنوات، وكان موضوع الحلقة ( تنظيم النسل ) وكان أحد الضيوف يمثل وجهة النظر الداعية إلى التنظيم، وكان الآخر يمثل الجانب الآخر، الجانب الإسلامي، وكان طبيبًا! ومما ردّ به الطبيب على الجانب الأول الذي قال: إن من حق الإنسان أن يقدر ظروفه المالية وغيرها، فينظم بناء على ذلك ـ رد عليه قائلًا: إن هذا حرام ، وإن الأرزاق على الله، وإن الله قد تعهد بالرزق! إن الأرزاق بيد الله، نؤمن بهذا، ونقر به، والشك به كفر، ومعاندة لأمر الله في هذا الكون ، وتكذيب لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (الذريات:58) وقوله تعالى: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ؛ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيرًا. (الإسراء:31) . وهو مخالف لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ) ولإخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن كل إنسان يكتب له رزقه وهو في رحم أمه.
لكن هل أمر الرزق خارج عن دائرة سنن الله في هذا الكون ( أعني من ترتيب الأسباب على المسببات ؟ ) وهل الله ـ تعالى ـ سيوفي هذا الإنسان رزقه الذي قُدّر له، جالسًا على كرسي، أو قابعًا في ظلام؟
هذا أمر، والأمر الآخر : هل التخطيط للمستقبل، والتحسب لأمره في مجال الرزق يتنافى مع الإيمان بالمُسَلَّمة التي قدّمت؟
أما الإجابة على السؤال الأول فإن الله ـ تعالى ـ لا يعطل سنن هذا الكون، أو يغيرها إلا معجزة لنبيٍّ، أو كرامة لوليٍّ، في ظروف محددة، ومحدودة جدًّا. أما فيما عدا ذلك فإن الأنبياء وغيرهم من سائر الناس يخضعون لهذه السَّنن ( قانون الأسباب والمسببات ) . فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تنعدم أسباب الرزق ـ يجوع، ويطلب الأكل فلا يجده، ولم يُنزِّل الله عليه رزقًا من السماء، ولا أخرج له من الأرض ذهبًا .
نعم نحن نعتقد أن هذه الأسباب ـ التي لا بد منها للوصول إلى المسببات ـ لا تعمل بنفسها، وإنما الفاعل هو الله، تعالى .
وأما الإجابة على السؤال الثاني فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ـ أحيانًا ـ يدخر قوت سنة، وحين أراد سعد بن وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن يتصدق بماله كله نهاه، وقال : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.. ). وهذا وذاك من التخطيط للمستقبل، ومحاولة لتأمين مال يقتات به عياله في قادم الأيام، فلم يتصدق ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لديه من مال، أو يترك الادخار؛ لأن الرزق مكفول، كما لم يسمح ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسعد أن يتصدق بماله؛ لأن الله ـ تعالى ـ يرزق عياله، وهو ـ أيضًا ـ من الأخذ بالأسباب لتفادي الفقر .
وأخيرا فإن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يفسر قوله ـ تعالى ـ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } من قوله : { ...وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا ، فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } . (النساء:3) يفسره : فاقتصروا على واحدة؛ فإن ذلك أدنى ألاّ يكثر عيالكم . فلا تستطيعوا رعايتهم .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية