مع دخول شهر رمضان من كل عام يتجدد الحديث عن هذا الشهر الفضيل وعن هذه العبادة العظيمة التي جعلها المولى جلّ وعلا ركنا أساسيا من أركان الدين الخمس.
وابتدءا نقول إن العبادات في الإسلام ليست أوامر جافة ولا طقوس جامدة ولا حركات صمّاء تؤدى بنسق رتيب وممل ،ولاهي صور خاوية مجتزئة من هنا وهناك، وليست كذلك أعمال كيفية تتحكم فيها رغبات ذلك الشخص أو تلك الجماعة وكما هو حاصل مع كل أصحاب الديانات والفرق عدا المسلمين طبعا.
إنها في الأصل منهاج حيا ة متكامل وعليها تدور فكرة وجود الإنسان على وجه الأرض
وهي في حقيقتها اسم جامع لكل عمل يرضي الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة السلام
وهذه الأعمال يتحد فيها الشكل والمضمون والجوهر والمظهر وتتناغم فيها حركة الجسد
وأحاسيسه الطبيعية مع خلجات الروح وتتجرد فيها النفس من أدران الأنانية لتذوب في ذات الجماعة المؤمنة ولتصير جزءا منها ويتلاقى فيها عبق التاريخ المشرق لبعض الشخوص والأمكنة مع اللحظة الراهنة لتنقل المسلم من عالمه المادي لتربطه بخالقه جل وعلا على الدوام ولتشع من هذا التلاقي الفطري أنوار ربانية يغدو فيها المسلم كالشمس التي تضيء نفسها وتضيء غيرها في ذات الوقت.
والصوم واحد من العبادات التي تتجلى فيها هذه المعاني العظيمة بوضوح
وهو في حقيقته صراع بين العادة والإرادة
فالإنسان الذي اعتاد طوال حياته على الأكل والشرب ومباشرة حياته الزوجية الطبيعية وغيرها من الأعمال نجد الإسلام يفرض عليه في هذا الشهر نمطا من التقييد الإجباري المحدد الذي تتجلى منه حكم جليلة ودروس عظيمة ومنها
إنه اختبار حقيقي لصدق إيمان العبد ومدى إخلاصه لربه وخاصة وانه عبادة يمكن إخفائها عن أعين الناس ولذا كان ثوابها لله عز وجل وحده
ومنها انه معايشة عملية لأحوال المعوزين و الفقراء والمساكين وتذكير للمسلم بقيمة النعمة
ولزوم شكرها من خلال شكر المنعم المتفضل والسعي للإنفاق على عباده من ذوي الحاجة
ومنها انه تدريب للمسلم على تحمل الصعاب والمشاق وعدم الإخلاد للراحة وحياة الدعة
والترف الدائم وقتل الوقت الثمين سعيا وراء ملذات الدنيا الزائلة
ومنها انه تذكير للعبد المسلم بأن هذه الحاجات التي قيده الإسلام بها في رمضان ليست
مطلوبة لذاتها فهناك دائما ما هو أعظم من الطعام والشراب وشهوة النفس ولا ينكر على احد أن يأخذ حاجته منها أو يتمتع بما انعم الله عليه ولكن إن تختزل الحياة كلها من اجلها فذاك طريق الهلاك والتردي في العدم.علاوة عن كون
ذلك يتناقض مع حقيقة أن المسلم صاحب رسالة في الحياة وهو مأمور بتأديتها على أكمل وجه وبالشكل الذي يترك الأثر الواضح على مجتمعه وأمته والإنسانية
جمعاء تجسيدا لمبدأ الشهادة على الناس المنصوص عليه في القرآن الكريم
ومنهاان شهره موسم خاص لتعزيز روح الأخوة والوحدة بين المسلمين وصورة ذلك تتجلى من خلال إقبال المسلمين الطوعي والجماعي على مباشرة فروض الصوم وما يتعلق بها علاوة على كم الدروس و الخطب والمحاضرات التي تصب كلها في قالب واحد هو تعزيز ثقة المسلمين بأنفسهم وشحذ هممهم وبث روح المحبة والتآلف وربطهم على الدوام بكل إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها.
ومنها انه يقدح في نفس المسلم شرارة التغيير والهادف والايجابي الذي يبدأ بالنفس أولا ويمر بالمجتمع الذي هو بحاجة ماسة دائما لكل طاقة خلاقة ومبدعة تتشرب مبادئ الإسلام وتتغذى على تعاليمه لأنها أولا وأخيرا نواة للمجتمع الإسلامي المنشود الذي
يكون بيئة صالحة تربوا فيه الفضائل وتخبو فيه الرذائل.
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة لامتثال المعاني واستيعابها وخاصة وهي تمر اليوم بأحلك ظروفها فأكثر المجتمعات الإسلامية لاتزال ترزح تحت وطأة الجهل والتخلف والفساد وغياب العدالة وشيوع الظلم والتسلط والقهر
ومن هنا فهي بحاجة لاستغلال هذه المواسم المباركة من اجل بث روح الإسلام الحقيقي
تلك الروح التي خبت اوكادت تخبوا ومع الأسف في نفوس الكثيرين بفعل هذا الجهد المنظم من أعدائهم في الخارج والداخل و الذي انعكس سلبا على كل مفردات حياتهم حتى تلك المتصلة بجوانب العبادات و مايتعلق بها ومن هنا نجد إن المواسم الرمضانية تحولت ومع الأسف من مواسم تقرب وعبادة وصلة بين العباد وخالقهم إلى مواسم للتباهي والخيلاء واستباحة للمنكرات
والشغف الممجوج و الفارغ بنتاج بعض المؤسسات الإعلامية والفنية التي تكثف إنتاجها بشكل لافت في هذا الشهر وبأساليب مقنعة وماكرة تعكس في اغلبها عقلية سطحية تهدف للربح والمنفعة والشهرة على حساب القيم والمبادئ والمثل التي يدعون زورا تمثيلها والتقيد بها وهم ابعد الناس عنها
إن على المسلمين وقد نزل بهم رمضان نبذ روح التواكل والكسل والخمول وترك الخلاف والاهتمام بالأولويات وعدم الركون للنواحي المادية التي ركزتها في عقولنا وسلوكياتنا
هذه الحضارة المعاصرة
والتي جعلت الإنسان عبدا مطوعا لها يعيش فيها بدوامة مستمرة تستنزف منه عمره وهو لاهٍ وغافل عما حوله اوعما لا تدركه حواسه المعطلة البليدة
وكما إن عليهم إعطاء صورة ايجابية عن الإسلام وقيمه ومبادئه السامية وخاصة بعد كل الهجمات التي تولى كبرها أعداء الخارج وبعض شذاذ الأفاق ودعاة السوء وعشاق الانحلال ورواد الرذيلة عندنا من الذين يتصيدون في المياه العكرة ويقتاتون على فتاة موائد أسيادهم واولوياء نعمتهم.
إن الصوم مدرسة عظيمة ومنبع للقيم الخالدة ومورد عذب للأخلاق السامية وسوق عامرة
بالطيبات من أغذية الروح والقلب والعقل
دعائنا أن لايمر رمضان إلا وأثاره الطيبة قد غمرت النفوس وايقضتها من سباتها وقبل هذا حررتها من ربقة الخطايا والآثام و جددت صلتها بخالقها جل وعلا ودفعتها باتجاه التغيير الايجابي المنشود الذي يعيد لنا بعض أمجادنا السالفة ويعزز ثقتنا بأنفسنا حتى نأخذ دورنا في الحياة لنباشر نشر رسالتنا العظيمة وبغير ذلك سنكون أولئك الذين عناهم شاعرنا العربي في عجز بيته الناري الشهير
لقد صام هنديٌ فدوخَ دولةً
فهل ضرّعلجا ًصوم مليون مسلمِ ِ