لدي نسخة من كليلة ودمنة ليست موجود عند أحد غيري ، وقلبتها هذا اليوم ، فوجدت فيها الحوار التالي:
قال كليلة : أسمعت ـ يا دمنة ـ بهذا اللعَّان ، الطعَّان ، صاحب الخيال الغريب ، والتنبؤات الكافرة الفاسقة؟ إنه رجل جسمه في لسانه، ولسانه في فضاء لا يحد ، وفضاؤه هو اللعن ، والطعن ، وترتيب الأخيلة ، وإخراجها مسرحية ، لا يلبث أن يناقض نفسه بمسرحية أخرى ، ويناقض المسرحيتين بثالثة ، وهكذا إلى ما لا نهاية .. ، وهو يتمثل قول القائل : ( طوبى لمن شغله شتم عدوه عن النظر في عيوبه !! ) . وقول الآخر : ( اشتم عدوك ، تنتصر عليه ) . وقول الثالث : (إياك والنظر إلى عيوبك التي دخل منها عدوك).
قال دمنة : لعل صاحبك هذا ـ يا كليلة ـ مضطرب العقل ، ممسوخ الفكر ، منحرف النظر ، فدعني منه ، ولا تشغلني بترهاته .
فتابع كليلة : إنه رجل لم ينظر يوما إلى نفسه في مرآة ، ولم يراجع حساباته في مصرف ، ولا أعماله التجارية في سوق ، ولا إنتاجه اليومي في مصنع ، ولا أولاده الصغار في منزل ، إن عيونه تسمرت نحو هدف ، فلا تتحرك إلى غيره ، ولسانه امتد إلى الطعن واللعن ، فلا يرده إلى فمه ، وعطل كل وظائف عقله التي وهبه الله ـ تعالى ـ إياها إلا وظيفة الكلام ، والنظر ، هذه هي مملكته التي كثيرا ما يتباهى بها .
قال دمنة : ألم أقل لك ـ يا كليلة ـ دعني من هذا ، ولا تستفزني ؟
فتابع كليلة ـ لا يلوي على اعتراض دمنة ـ : ما أجمله تراه متكئا على أريكته ، يرتشف شايه ، أو يدخن دخينته ، أو يمسح شاربه ، أو هو بالثلاثة يأنس ، فينبري ليقص على الحاضرين اكتشافاته في تحليل الأحداث ، وتقعراته في ليّ الوقائع ، وتخيلاته في تفسير ما يعيشه من نكد ، وهم ، وتخلف ، وضياع ..
دمنة ، غاضبا : كلامك هذا كله تعميم ، في تعمية ، في تلبيس ، كلامك هذا يثير غضبي ، ويسيل له لعاب فضولي ، ألا تحدد ، وتبين ، وتفصل ؟ ألا تضع الإصبع على النقطة ، والنقاط على الحروف ، والحروف على الجروح ؟ أما كفاك ما نفذ من صبري ، وما تصرم من أعصابي ، وما هاج من دمي ، وما اهتز من جسمي ؟ أم تراك تلعب بأعصابي ، وتطرب لتحرقي ، وتنتشي بتعذيبي ؟
مهلاً ـ يا دمنة ـ إن في تفصيل أحوال هذا الرجل أضعاف ما في التعميم عنه ، وإنّ ما هدفت إليه من التعميم محاولة مني لتهيئتك للموقف ، وتفاديا مني لما أتوقع أن تصاب به من دوار ، وتخفيفا عليك من هول الصدمة .
دمنة : قل : فما عدت آبه ، وما عاد حسي ينجرح ، ولا فؤادي يتفطر ، ولا عيوني تحول ، ولا .. ولا .. ولا.. ولا جدران بيتي وسقفه تسقط على رأسي .
كليلة : خسر تجارة في هذا اليوم .
دمنة : هذا أمر يجري له ولكثير من الناس ، فما الأمر ؟
كليلة : لقد لعن مياه البحر ، وعيون الأنهار ، وسواقي البساتين ، وكل موضع فيه ماء .
دمنة : ولماذا ؟
كليلة : إن تلك المياه هي التي حوت السمك ، وحملت الصيادين ، فصاد الصيادون السمك من البحر .
دمنة : ثم ماذا ؟
كليلة : وحين صاد الصيادون السمك ، وجلبوه إلى العاصمة ، ظهرت رائحته ، وانتشرت بين الناس .
دمنة : ثم ماذا هداك الله ؟
كليلة : وحين انتشرت تلك الرائحة ، عرفوا أن سمكاً في السوق ، وحين علم الناس أنّ هناك سمكا في السوق اشتروا السمك .
دمنة : لقد نفد صبري ، ثم ماذا ؟
كليلة : إن شراء الناس السمك أشغلهم عن شراء ما في حانوته من قماش .
قاتل الله البحر ، كم هو غدار كم من طفل أغرقه ، وسفينة امتصتها قيعانه ، وجواهر أخفاها مرجانه ، ولم يكتف بهذا حتى غدر بي ، وكسدت بسببه تجارتي ، وجاعت على شواطئه عائلتي ، وتاهت في أمواجه شراعاتي .
دمنة ـ ضاحكا ـ : بقدر ما يغيض هذا الرجل فإنه يضحك ، ولقد كنت أكذب المقولة الشائعة : ( شر المصيبة ما يضحك ) حتى سمعت ما يجول في خاطر هذا .
كليلة ـ مقاطعاً ـ : إنّ هذا الرجل يدعو على من ابتدع الهاتف ، واخترع السلكي ، واللاسلكي ، ويهيب بالناس أمثاله أن يؤمنوا على دعائه ، إن قومي هؤلاء ـ مع الأسف ـ نائمون ، وهم عن عدوهم غافلون ، وفي غيهم سادرون ـ وإنا لله وإنا إليه راجعون ـ إن نظرهم لا يتجاوز مواضع أقدامهم ، وتفكيرهم منحصر في أمعائهم ، إنّ صنع الهاتف كان مؤامرة دنيئة على أمتنا نحن (بني كسل بن خيال بن نيام) هم يريدوننا أن نستعمل الهاتف لنصاب بالأمراض في كل موضع من أجسامنا : مرض في الأرجل ؛ لأن الهاتف سيمنعنا السير لإبلاغ ما نريد ، ومرض الأيدي التي تمسكه ، والآذان التي تسمعه ، والأفواه التي تلقنه ، والمرض هنا يجر المرض هناك ، والمرض هناك ينتقل إلى مكان آخر ، وهكذا ... أرأيت خبثهم ؟ أرأيت مكرهم ؟ وإذا مرضنا لم نستطع محاربتهم .
قال دمنة : ثم ماذا ؟
قال كليلة : فانبرى آخر من ( بني كسل بن خيال بن نيام ) ليقول لصاحبه وابن جلدته : أنت لم تعرف السبب كله ، والخبث أجمعه !! إنك نسيت ما هو أهم ، إنهم يريدون ـ خلاف ما ذكرت ، وبه تجملت ـ أن نشتري منهم الدواء ، وأن نذهب إلى أطبائهم ، فهم أعاقونا جسديا ، واقتصاديا .
ثم انبرى ثالث من ( بني كسل بن خيال بن نيام ) فقال : لقد نسيتما أمراً غاية في الأهمية ، وبالغ الدقة ، ولعله لدقته لا يتنبه له إلا النبهاء ، الأذكياء ، الملهمون !! ـ فتزحزح الرجل ، وكان متكئا ، فجلس ، ومدّ يده نحو شاربه ففتله ، وأخذ كأسه فشرب ، فاشرأبت له أعناق ( بني كسل بن خيال بن نيام ) وتسمرت نحوه عيونهم ـ فقال : تعلمون ـ يا قوم ـ أن عمر أرضنا إلى زوال ، وأن الشمس تهرم وأنها إذا هرمت ستتحول إلى غول ، وستلتهم أرضنا في حدود سبع مليارات سنة ، وأنهم بدؤوا يفكرون بالعيش في كوكب آخر ، ومن الكواكب المرشحة للانتقال إليها المريخ ، وهو يعملون على حل بعض الإشكالات التي لا تساعد على وجود الحياة في المريخ ، ومنها : انعدام الأوكسجين والماء ، البعد ، البرودة .. .
وأنا أعتقد أن المريخ أصغر حجما من الأرض ، وهو لا يتسع لنا ولهم ، فهم يريدون أن يقضوا علينا ، أو أن يبقونا متخلفين ، حتى لا نزاحمهم المكان .
قال دمنة : لقد تذكرت ، إن لواحد من ( بني كسل بن خيال بن نيام ) مقولة مشهورة ، ذهبت مثلا بين الناس ، تتداولها الألسنة ، على مرّ العصور ، ذلك أن قوما من الغزاة ، فكروا في أضعف الخلق عقلاً ، وأشدهم عجزاً ، وأكثرهم نوماً ، وأطولهم لساناً ، فوجدوه في قوم هذا الرجل ، قوم ( بني كسل بن خيال بن نيام ) فغزوهم ، وأخذوا منهم ما يريدون ، وبعد مدة من الزمن زارهم جيرانهم ، وسألوهم عما جرى ، وانبرى أحد الجيران ، فسألهم : هل فكرتم بسبب اختياركم من بين بني الأرض ؟ هل عرفتم مواطن الضعف التي أغرت بكم عدوكم ؟
فقام أحدهم قائلاً : أرأيت هؤلاء الخبثاء كيف يتآمرون علينا ؟ إن الخرق الذي في طبقة الأوزون مؤامرة دنيئة منهم ، وإن .. ، فقاطعه رجل من الجيران ، قائلاً : ألست من ( بني كسل بن خيال بن نيام ) ؟ قال الرجل : نعم . فقال الرجل الجار : فإني أشهد الله ، والملائكة ، والعالمين : الإنس والجن : إنكم أبناء شرعيون لأولئك القائل : ( أوسعتهم شتما ، وأودوا بالإبل ) .