ذكـرى
أنلتقي هذا العام..؟
أتَجمعنا تلك البُقعةِ المُباركةِ ـ بصمتٍ ـ كما جَمعتنا وَحْدَنا سِنينَ عديدة ؟
طالما سألتُ نفسي: ما الذي غيَّبَ نساء الحيِّ عن مُصلانا، أزَهِدْنَ فيه لصغرِ حَجمهِ أم ماذا؟
أتذكرين يا... ؟!
لحظة كنتُ أسابقُ النَّسماتِ كَي أصلُ أوَّلا، لكنني ـ رغم قرب المكان ـ كنتُ دومًا المُتأخرة !
كم حَثثتُ الخُطا وقلبي يَلهجُ : "اللهم إني أقبلتُ عليكَ فاقبَلني وتقَبَّل مني ؛ اللهم صلِّ على محمَّد ، اللهم افتح لي أبوابَ رحمتك"
ها قد وصلتُ، أُلقي التحيَّة وألِج، فيستَقبلني مُحيَّاك بابتسامةٍ عذبةٍ ونظرةٍ خَجلى، فأبادِلك الابتسامة بابتسامةٍ، وقبل أن نَهِمَّ بالحديث يعاجلنا الإمام بإقامة الصلاة فنَصطف لأدائها ...
نقفُ بخشوعٍ مُستشعرين جَلال الموقفِ، وعَظمةِ المَعبودِ ـ جلَّ جلاله ـ فتَسري السَّكينة في جوارحنا، وتهدأ القلوب وتستقر..!
نتحرَّر من أثقال كثيرةٍ أعيَت أرواحنا على عتباتِ السُّجود، وعندما نَرفع أكفَّنا بالدُّعاء تفِرُّ من محاجرِنا دموعًا حُبِسَت بقسوةٍ لتفضحَ ضعفنا ، وتغسلنا من أدرانِنا.
ثمان ركعات وحدّت بين قلبَيْنا برباطٍ خَفِي، في حين عجزت أحاديث كثيرة وزيارات متكررة أن تفعل ذات الفعل، ولا غرابة..!
فإن الاجتماع على طاعةٍ يُنبِتُ زهرة الحبِّ في القلوبِ.
لم نتحدّث إلا مرَّة واحدة...
التفتِ إليّ ـ ذات مساء ـ بعد أن سلَّمنا من الصَّلاة وقلتِ: هل أعلِّمك سُنَّة من سُنَنِ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصَّلاة؟
- ليتك تفعلين.
- قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنْ أَرْبَعٍ. يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْر ِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ "
تظاهرتُ بالجهلِ ليلتها وشكرتكِ بامتنان، حتى لا أفسد عليكِ حلاوة ذلك الشعور الذي يَسكننا عندما نقوم بواجب الدَّعوة إلى الله، وما أرفع مقام الدَّعوة والدَّعاة إن هم صدقوا وأخلصوا.
نفحـة ربانيَّـة
هلّ هلال رمضان ـ يا مَن لا أعرف اسمها ـ، وجاءنا يَزفُّ البَشائرَ، فهل ما زلتِ على العَهد أم شغلتكِ عن مُصلانا الشواغل؟
أتانا يَحمل بين لياليه صحائفَ بيضاءَ ناصِعَة، معه منها الكثير، بعددِ أهل الأرض جَميعهم، هي لنا، فمن أرادَ أن يَستبدِل صحيفته التي تلوَّثت بالسَّواد فما عليه إلا أن يتعرّض لنفحاته...
يُقبل على الله بحب وخضوع، ويُري الله من نفسه خيرًا، فالأجواء قد هُيِّئت له، فها هي مردة الجنِّ والشياطين قد صُفِّدَت، وأبواب جهنّم أغلقت، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، كلّ ذلك من أجلنا..
فما أكرمك عند ربّك يا أيُّها الإنسان!
نفحة ربانيَّة تَمتدُ شهرًا كاملا، وتَفِدُ إلينا مرّة كلّ عام، ما أعظمَ عطاء الرّب، وما أرحمَه بعبادِهِ!
فمَن ذا الذي يفتحُ لك بابَه شهرًا كاملا، ويقول لك: أقبِل إليَّ لا تتردّد، سَـلْ تُعطَ فهذا موسم الهِبات؟!
مَدخل شيطانيّ
يُطأطئ بعضنا رأسَهُ خجلا، ويبتلعُ غصَّته وهو يَعترف: أذنبتُ كثيرًا.. عصيتُ الله كثيرًا، فهل لي من توبةٍ؟!
كيف لا؟!
والله ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول في كتابه الكريم : "إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً" [الفرقان:70]
وهو القائل أيضا جلَّ في علاه: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:53]
وها هو ـ سبحانه وتعالى ـ يخبرنا على لسان نبيّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي: "يا ابنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي؛ يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي؛ يا ابنَ آدَمَ إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"
يا عبد الله..
املأ قلبك بالتوحيد، جدّد إيمانك بـ "لا إله إلا الله"، ردّدها كأعذب نشيد، اجتهد في فعل الخيرات لِتعوِّضَ ما فاتك، فربّ ذَنب ساقَ صاحبَه إلى الجنَّة!
شـامَة
شَهرٌ ترتدي فيه الأمَّة الإسلاميَّة أبهى الحُلل، فتطلَّ على الدُّنيا كشامَةً بين الأُمَم.
بذل وجود: يُعطي الغنيّ فيتخلّص من شحِّ نفسه، ويأخذ الفقير شاكرًا نعمة ربّه.
برٍّ، صلة رحم، ووصل صديق: انتعاشُ مشاعرٍ، توَقُدّ عاطفةٍ، فمجتمع مترابط بوثاق متين.
جهاد، تضحية، توحيد صفوف، تهذيب نفس، تربية روح، وتنقية قلوب.
الكلّ يسعى دول كَـلَل، رهبًا ورغبًا، فالجنّة غالية، والوقت محدود..
يَهبُّ النَّسيم العليل تسبيحًا، وتتمايل الأغصان تَسبيحًا، وتغرّد الطيور تسبيحًا ، ويعلو موج البحر تسبيحًا، وتتلألأ النجمات في سماء ربي تسبيحًا، وينبعث ينبوع الضَّوء من الشَّمس تسبيحًا...
قال تعالى: " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً " [الإسراء:44]
فيا قلب..
أما آن الأوان أن يَنتظمَ نبضكَ تسبيحًا؟!
ليلة.. وأيّة ليلة!
شهرٌ فيه ليلة خير من ألف شهر، من قامَها إِيماناً واحْتِساباً، غُفِرَ لهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِه، ليلة نزل فيها القرآن العظيم جملةً إِلى السماء الدنيا، ثم نزل على سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً بعد شيء، ليلة تَعدِل عمرك كلّه بكلِّ ما فيه ، إنَّها ليلة القدرِ!
يَغْفِرُ اللَّهُ فـي لَيْلَةِ القَدْرِ لكُلِّ مُسْلِمٍ إِلاَّ لِلْـمُتَشاحِنَـيْنِ، فيُقال: "اترْكُوهُما حتى يَصْطَلِحا !"
ماذا ننتظـر؟
ألسنا نحن الفقراء إلى عطايا الرحمن في مثل هذه اللَّيلة، فمالنا نَجلخِم* ونستكبر ونصرّ على العداوةِ والبَغضاء؟!
شـوق
وَصلَ الوافدُ الحَبيبُ يَسبِقه نـوره، وما زالت خُطايَ تُسابقُ نسماتِه نحوَ المَسجدِ، يَحدوني الشَّـوق، وتُحلِّق بيَ الآمـال!
فيا مَن لا أعرف اسمها...
هل تُرانا نلتقي هذا العام أيضا؟
هل سأسبقكِ؟ أم سأصلُ متأخرةً كالعادةِ..!
ــــــــــ
· نَجلخِم: اجْلَخَمَّ الرجلُ: استكبر، واجْلَخَمَّ القومُ: استكبروا.