احترق بيتُ جارٍ لي ـ حيث أسكن في إحدى الدول العربية، فاتَّهَمَ صاحبُ البيت الجنَّ بحرق بيته! وعاد البيت فاحترق، فكرر صاحب البيت الاتهام، فأتاه أحد الجيران بشيخ يخرج الجنيَّ من البيت، ويمنعه من الإقدام على الإحراق، وتكرر الحريق! وحين قطع الكهرباء، ثم أصلح أسلاكها، توقفت الحرائق!
شخص أعرفه، كانت ابنته في صغرها تُحدث نفسها، فاتهم الجنيَّ، ولم يترك شيخاً إلا رقى لها، ولم تبقَ رُقية إلا تليت عليها، فلم ينفع شيءٌ مما تقم شيئاً، فاتهم أبو هذه البنت الجنَّ تهمةً أخرى، وزعم أنهم يساكنونه بيته، فخرج الرجل بعائلته من البيت، ومع مرور السنين كبرت البنت وتفاقم معها مرض انفصام الشخصية، فراجع أبوها بها الأطباء، فلاموه على تركها تلك المدة، وعالجوها بالحبوب المهدئة.
ويظهر على إحدى القنوات ساحرٌ يقول: إنه تاب من سحره، ويذكر أنَّه ـ بعد توبته ـ مات له جمعٌ من أبنائه (لا يحضرني عددهم) فيتهم الجنَّ بأنهم قتلوا أبناءه، وهي قصة يتحدث بها كل من سمعها من تلك القناة، أو سمعها من سامعها!
وقرأت: أن الفتاة اليمنية التي توفيت لزواجها في صغر سنها ـ قبل أشهر ـ كانت تنزف دماً عند الشيخ الذي كان يقرأ عليها رُقاه محاولاً إخراج الجني منها، فخرجت روحها!
وقبل أسابيع (خلال الشهر العاشر من سنة 2010) اشترك قاضٍ في إحدى الدول العربية في عملية فساد ماليٍّ فاتهم الجنَّيَّ بأنه تلبسه، وجعله يُوَقِّع. وأيَّد ادعاء هذا القاضي شيخٌ راقٍ! قال الراقي: نعم أنا قرأت عليه، وكان الجنيُّ يتحدث بأنه تلبس هذا القاضي!
وفي حدود (9/11/2010) اقتاد فتاةً أهلُها إلى شيخ ليُخرج الجنيَّ منها، فانهال فضيلة الشيخ على الفتاة (الجني) بالضرب فلم يخرج، وكان هذا الجنيُّ ـ فيما يبدو ـ جنياً عصيا، فلم يجد الشيخ بُدّا من استعمال الكهرباء لإخراج الجنيِّ، فخرجت روح الفتاة!
وقصص كثيرة: فكم أقلق الجنُّ أناسا من بيوتهم فأخرجهم منها! وكم قتل من شباب، وكم رمل من نساء، وكم من بيوت تركت مهجورة، وكم... وكم... وكم...!، وكم تزوج من إنسية، وكم تزوجت جنية من إنسيٍّ، وكان لهم الأولاد! ولا أدري من أي جنس كان هؤلاء الأبناء (جن، أو إنس) وبأية جنسية جنسهم؟؟؟؟؟!
هل صحيح أن الجنيَّ يتلبس الإنسان؟
وهل للجنِّ كل هذه القدرات؟
أو بعبارة أصح وأوضح: هل جعل الله ـ عز وجلَّ ـ للجنِّ وفوَّضهم أن يفعلوا فينا ـ نحن بني البشر ـ هذه الأفعال وغيرها؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لا بد من أن أنبه إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ـ وهذا مهم جدا ـ: أن الجنَّ، والملائكة، والجنة، والنار، ونحوها من الغيبيات هي قسم من أقسام العقيدة، وتسمى في علم العقيدة (سمعيات) أي تؤخذ من السمع (القرآن والسنة) ولا سبيل للعقل إلى معرفة أيِّ شأن من شؤونها، إلا عن طريق القرآن والسنة النبوية، فالملائكة، والجنُّ، وصفاتهم، وصفة الجنة، والنار، وأين يسكن الجن، وماذا يأكلون ـ غَيــــــــــْبٌ، لم نكن نعرف عن هذا الغيب شيئاً لولا إخبار الله ـ عز وجل ـ أو رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لنا، ولو جلس المجتهدون جميعهم يجتهدون ليل نهار لما استطاعوا أن يتوصلوا إلى صفة الملك، أو الجني، أو
الجنة، أو النار؛ لأنها غيــــــــب.
لذا فإنَّ معلوماتنا عن هذه العوالم تؤخذ عن طرق السمع من القرآن والسنة، فحتى الأسماء لا نسمي شيئا من هذه الغيبيات باسم إلا بما سمتهم به النصوص الشرعية.
فنحن عرفنا من صفات الملائكة أنَّ لهم أجنحة، قال ـ تعالى ـ: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. وعرفنا أن اسم خازن النار (مالك) من قوله ـ تعالى ـ متحدثا عن أهل النار: {وَنَادَوْا: يَا مَالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ! قَالَ: إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}. وعرفنا أن الجن استمعوا للقرآن، وأن منهم الكافر، ومنهم المؤمن، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه، ويتخبطه، عرفنا هذا من نصوص قرآنية بينت هذا، لا داعي للإطالة في ذكرها.
الأمر الثاني: ـ وبناء على ما تقدم في الأمر الأول ـ أننا ملزمون بما يقوله الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وما يقوله رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن الجن. فإذا تحدث لنا متحدث عن صفات الجنة، أو صفات الملائكة أو صفات الجِنِّ وما يفعلون طالبناه بآية، أو حديث صحيح يثبت ما ادعاه، فإن أتى بما طالبناه قبلنا قوله، وآمنَّا بما يقول، ووجب علينا هذا الإيمان، وإن لم يأتِ بالدليل فلسنا ملزمين برأي أحدٍ، كائنٍ من كان، بل لو سَمَّى أحدٌ لنا ملكا، أو جنياً باسم لم يرد في القرآن والسنة لم نقبل قوله هذا.
فلا يجوز أن نسمي أحدا من عالم الغيب باسم إلا إذا صح في النصوص الشرعية؛ لأنَّ هذه الأمور (سمعية). ولأنه لم يرد في القرآن والسنة أن اسم ملك الموت (عزرائيل) فلا نسميه بهذا الاسم، فمن باب أولى لا يجوز لنا أن ننسب إلى ملك، أو جني عملاً لم يرد في قرآن، ولا سنة.
الأمر الثالث: نحن نؤمن أن في القرآن شفاءً، وأن أناساً من الناس تليت عليهم آيات من القرآن الكريم فشفوا بإذن الله.
وبعد هذا ـ أخي القارئ ـ تعالَ معي لنرى هل في أدلة جمهور العلماء ما يثبت أن الجني يتلبس الإنسان؟
يستدل الجمهور بأدلة أهما ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: قوله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.
الدليل الثاني: حديث: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مر على طفل مريض، فقال: اخرج..أو كما ورد في الحديث.
وحديث صفية بنت حُيَيٍّ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)). أخرجه البخاري، الاعتكاف (4/ح:2038).
وحديث ابن عباس ـ فيما رواه عنه عطاء بن أبي رباح ـ قال: قال لي ابن عباس: ((ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادعُ الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادعُ الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها)). متفق عليه أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: فضل من يصرع من الريح (10/ح:5652) ومسلم، كتاب البر والصلة، باب:14 (4/ح:2576).
قال ابن حجر في فتح الباري (10/115): (وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: (إني أخاف الخبيث أن يجردني)... وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر (المرأة السوداء) كان من صرع الجن، لا من صرع الخلط).
الدليل الثالث: المشاهدة، فنحن نرى أناساً يعانون من حالاتٍ يتحدث فيها الجنيُّ من خلالهم، بل إنَّا نرى امرأة تتحدث بصوت رجلٍ، ورجلاً يتحدث بصوت امرأة.
مناقشة هذه الأدلة
هل هذه الأدلة قادرة على إثبات ما يسمونه (تلبس الجني) وعلى قدرتهم على التدخل في شؤننا، ومضايقتنا في بيوتنا، وحرقها، بل وقتلنا؟
الاستدلال بالآية
استدلالهم بالآية استدلالٌ غير سديد؛ لأنا نسأل هؤلاء فنقول:
أولاً: إنَّ الآية قالت: (مس) ولم تقل تلبس. فمن أين جئتم بالتلبس؟
ثانياً: من قال لكم: إن المسَّ في الآية هو ما نراه من مظاهرَ على بعض المرضى؟ هذا تحكم، وادعاء لا دليل عليه.
ثالثاً: إن الآية تقول: إن أكلة الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فهل أكلة الربا يتصرفون كما يتصرف من يتلبسهم الجنيٌّ على هذا الزعم؟ هل أكلة الربا يتشنجون، ويصرعون؟
هم يجيبون فيقولون: إن هذا يكون يوم القيامة. ويقولون: إنَّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق.
فنقول: إذا كان أكلة الربا يصابون بمثل ما يصاب به ممسوس الجن المزعوم يوم القيامة، ويغيبون عن الوعي كما يغيب مرضى التلبس ـ على حد زعم هؤلاء ـ فهذه رحمة من الله بأكلة الربا، فهم سيكونون مجانين، أو شبههم فلا يشعرون بأهوال يوم القيامة، ولا عذابها!
إذن ما المراد بمس الشيطان في الآية؟
إن المراد بالمس في الآية ـ والله أعلم ـ لَمَمُ ووسوسة الشيطان، وما يصاب به الناس بسبب هذه الوسوسة من حيرة، وتردد، وقلق، وهذا هو التخبط، بدليل أن (مس الشيطان) نسبه النبي أيوب ـ عليه السلام ـ إلى نفسه، قال ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. فهل كان أيوب ـ عليه السلام ـ مصابا بتلبس الجن؟ أعتقد أن من الجرأة على الله، والافتيات عليه، والاستهانة بمقام النبوة أن نزعم أن للشيطان قدرة الشيطان على تلبس الرسل!
ويقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. [الأعراف:201] فالآية تذكر أن المسلم يمسه الشيطان بوسوسته فإذا مسه الشيطان (تذكروا) قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله ـ تعالى ـ فيكظم الغيظ. وقال مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. (فإذا هم مبصرون) أي يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر. قال السدي: إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل في معى الآية: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية، فأبصر فنزع عن مخالفة الله.
فهاتان الآيتان ورد فيهما مس الشيطان، ومعناه الوسوسة ونحوها مما قدمناه، وبهما تفسر آية أكلة الربا.
وننتهي من هذا أنَّ آية الربا ـ فيما يبدو ـ لا تدلُّ على تلبس الجن للإنسان، لا بمنطوقها، ولا بمفهومها، ولا بإشارتها.
الاستدلال بالأحاديث
وأما الأحاديث فليس هناك حديث صحيح في هذا الأمر، بل كل الأحاديث ـ ما عدا حديث صفية وحديث ابن عباس ـ التي يروونها ضعيفة، وحتى الضعيف منها، فإنه لا يصرح بتلبس الجن للإنسان.
وأما حديث صفية بنت حُيَيٍّ فإن قصةَ الحديث تبين أن معنى جريان الشيطان وسوسته، ولا يحتمل أبداً التلبس المزعوم، فقد روى البخاري عن حفصة زوج النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ: ((أن النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ كان في المسجد، وعنده أزواجُه، فرُحْنَ، فقال لصفية بنت حُيَيٍّ: لا تعجلي حتى أنصرف معك ـ وكان بيتها في دار أسامة ـ فخرج النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ معها، فلقيه رجلان من الأنصار، فنظرا إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثم أجازا. فقال لهما النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ تعاليا، إنها صفية بنت حُيَيٍّ، فقالا: سبحان الله! يا رسول
الله، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يُلقي في أنفسكما شيئا)). أخرجه البخاري، الاعتكاف (4/ح:2038). الحديث صريح بأنَّ المراد (بجريان الشيطان) وسوسته وتشكيكه.
وأعتقد أن في هذا الحديث رداً على كل من يزعم أن للشيطان قدرة على فعل شيء أخْذا من شبهة حديث، أو آية، فالنبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ عبر عن الوسوسة بجريان الشيطان في دمائنا، فهذه تعبير كنائيٌّ، واضحة الكناية فيه ـ كما يبدو من سبب القصة ـ وضوح الشمس في رابعة النهار.
وأما حديث ابن عباس فليس فيه دليل على أنها تصرع من صرع الجن المدَّعَى، فالحديث يقول: تصرع، ولم يقل: إن جنيا صرعها، لذا كان البخاري ذكيا ودقيقا، فقد بوب للحديث (فضل من يصرع من الريح) حيث كان يعتقد في ذلك الوقت أنَّ الصرع يكون بسبب ريح تنحبس في منافذ الدماغ.
والظاهر ـ أيضا ـ أنها لو كان الجنُّ يصرعها لما قبل النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ أن يتركها فريسة لجنيٍّ.
لكن القائلين بتلبس الجني لها بتوكؤون على رواية أخرى لهذه القصة عن ابن عباس أن فيها زيادة أنَّ المرأة، قالت للنبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ: (إني أخاف الخبيث أن يجردني). أخرجها البزار.
وإذا رجعنا إلى هذه الرواية التي فيها زيادة وجدنا فيها راويا اسمه (فرقد بن يعقوب السبخي البصري). فما مقام هذا الراوي عند أهل الحدبث؟
قال أيوب عنه: (ليس بشيء، أو لم يكن صاحب حديث). وقال يحيى القطان: (ما يعجبني الحديث عنه). وقال الإمام أحمد: (رجل صالح، ليس بقويٍّ في الحديث، لم يكن صاحب حديث، يروي عن مُرَّةَ منكرات). واختلف فيه ابن معين، فمرة وثقه، ومرة قال عنه: ليس بذاك. وقال البخاري: (في حديثه مناكير). وقال النسائي: (ليس بثقة) وقال يعقوب بن أبي شيبة: (رجل صالح ضعيف الحديث) وقال أبو حاتم الرازي: (ليس بقويٍّ في الحديث). وقال الحاكم: (منكر) وقال ابن حبان: (كانت فيه غفلة، ورداءة حفظ، فكان يرفع المراسيل وهو لا يعلم، ويسند الموقوف من حيث لا يفهم، فبطل الاحتجاج به) تهذيب التهذيب (8/236ـ237). وخرج ابن
حجر من مجموع هذه الأقوال عن هذا الراوي بخلاصة أنه: (صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ). كتاب التقريب.
فهل ـ أيها القارئ ـ من الدين، والأمانة العلمية، واحترام مقام النبوة الأخذ بكلام يرويه رجل هذه حاله، لننسبه إلى النبي ـ صلى الله وآله عليه وسلم ـ حيث سكت عليه؟
تفسير حالات التشنج والاضطراب
وأما ما نراه من حالات فلا ينكرها أحد، وهي موجودة، ومنكرها إنسان معاند جاحد، لكن ما تفسير هذه الحالة، وما تشخيصها؟
الخلاف في تفسير الظاهرة، وتشخيصها، وليس في وجودها:
فالذين يؤمنون بتلبس الجن يشخصونها على أنها مس من الجن. وهذه دعوى لا دليل عليها، وتقدم بيان ضعف الأدلة عليها.
وغيرهم يشخصها بأنها حالة نفسية (مرض نفسي) كيــــــــــــف؟
يصاب شخص ما بالمرض: يتشنج، يُحدِّث نفسه... فيقال: إنه ملبوس من الجن! خذوه إلى الشيخ! يُقتاد هذا المريض إلى الشيخ، وفي مجلس مهيب، يتعوذ الشيخ، ويبسمل، ثم يبدأ بقراءة آيات من القرآن الكريم ليُخرج ـ أو يَخرج ـ الجني المزعوم. وقد يصل الأمر إلى أن يضرب المريض أحيانا، وأحيانا يخوفه بالضرب. والمريض المسكين في حالة نفسية مرعبة، أيّ رعب! أعانه الله ـ تعالى ـ على ما هو فيه: فهو يعتقد أن جنيا بداخله، والشيخ يحاول إخراج هذا الجني.
وبناء على ما أوحَى به إليه أهله، وشاع في المجتمع، وتحت ضغط الشيخ الشديد (بعبارة علمية تحت وطأة الإيحاء وقبول الإيحاء) يضطر المريض إلى الاستجابة لهذا الضغط، فيبدأ يتحدث بما نسمعه، ونقرؤه من قصص يتحدثون بها. يتحدث باسم الجني البريء براءة الذئب من دم يوسف.
بعبارة أخرى فإن المريض يتقمص شخصية الجني ليستجيب لهذا الضغط.
هذا تفسير لبعض الحالات التي نراها مما يُسمَّى إخراج الجن.
وما يقال عن تحدث المرأة المريضة بصوت رجل، أو بالعكس، فهذا أمر ليس مستحيلاً، فتغيير الصوت أمر مقدور عليه لدى كثير من الناس.
أما ما يقال من أنَّ المريض يتحدث بلغة لا يعرفها، فهو من كذب القول، ومحاولة لخداع الناس؛ ليصدقوا زعم الزاعم.
يا إخواننا، أتدرون ماذا قال القرآن الكريم عن الشيطان؟ قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.
هذا هو الشيطان: كما أخبر عنه الله ـ عـــز وجـــــــــــــل ـ الذي خلقه: كَيْــــــدٌ ضعيـــــــــفٌ، ونحن جعلنا له التصرف، واللعب بعباد الله، فهـــــــــو:
يَقتـــــل، يُمـــرض، يَحـــرق، يُخــرجنا من بيوتنا، يَتــــزوج ذكورهم نساءنا، ويتـــزوج نساؤهم رجالنا!
لو كان للجنِّ هذه القدرات ليفتكوا بنا هذا الفتك، لجعل الله ـ عز وجل ـ لنا القدرة على أن نحولهم إلى محكمة جنايات! هم مخلوقات مكلفة كما نحن مكلفون، وليسوا جراثيم، ولا حيوانات مفترسة، فلماذا يكون لهم أن يفعلوا بنا كل هذا، ولا يكون لنا أن نأخذ بحقنا منهم، بأيدينا، أو بواسطة القضاء؟
إن الشيطان لا سبيل له إلى ابن آدم إلا بالوسوسة، قال الله ـ عز وجلَّ ـ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}.
وقال ـ تعالى ـ : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
وعن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)). رواه أبو داود في كتاب الأدب، وهو حديث صحيح.
إن هذه الفكرة التي سيطرت على أذهان كثير من العلماء أوجدت في الأمة مخادعين كسابين يضحكون على الناس.
نعم هناك مرضى يتشنجون، ومنهم من يشفى بتلاوة القرآن، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وهذا موجود، لكن هذا المتشنج مريض بمرض نفسي شفي منه بتلاوة القرآن، بل قد يكون مرضا عضويا شفي ببركة كتاب الله، هذا كل ما في الأمر، فلا جنيَّ كان، ولا جنيَّ خرج.
وبالمناسبة فإن القراءة على مثل هؤلاء المرضى يقوم بها الكفار ممن يؤمنون بالتلبس، ويقرؤون على مرضاهم ترانيمهم وأناشيدهم الخاصة بهم، ويحصل لمرضاهم مثل ما يحصل لمن يُقرأ عليه القرآن.
هذه هي أدلتُهم على تلبس الجن للإنسان، وهي ـ كما ترى ـ أضعف من أن تدلَّ على التلبس، فأين الأدلة على قدرتهم على: قتلنـــــا، حـــــرق بيوتنــا، مضايقتنـــا في بيوتنـا وَتَهْجِرينا منها؟ وأين الأدلة على زواجنا بنسائهم، وزواجهم بنسائنا؟ ليس هناك من أدلة، وإنما هناك وقائع يدعيها أناس: إما مرضى، أو متأثرون بهذه المقولة.
يبدو أن الذي ننتهي إليه من كل ما سبق ـ والله أعلم ـ أنَّ الجنَّ لا يتلبسون الإنسان، ولا يقتلونه، ولا يضايقونه في بيته، ولا يحرقون داره؛ لأنَّي لم أجد دليلاً صحيحاً صريحاً يدل على هذه الدعوى، وحين لا يكون دليل تسقط الدعوى.
وأن مما ننتهي إليه أن الجن يوسوسون للإنسان، ويشككونه، ويتخبطونه بمسهم في حيرة، وقلق، وتردد، كما ورد في النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة.
وأخيـــــــــــــــــــــــــــــــراً:
هل من المعقول والمنطق أن نلغي عقولنا، ونصدق ما يقوله رجـــلٌ مريــــــضٌ متشنــــجٌ، يرتجـــف خوفــاً، يحتاج لعلاج، ويرثـــى لحالـه، نصـــــدق دعــــــــــــواه بأنه جنيٌّ، وأنه... وأنه...!
وأخيـــــــــــــــــــــــــــــــراً ـ أيضا ـ:
فالصحيح الموجود هـــــــــــو: أن هؤلاء المرضى يتلبسون الشيطان، أي يتحدثون باسمه وهو بريء، فالإنسان هو الذي يتلبس الجنيَّ، لو كان هناك تلبس!
والصحيـــــــــــــــــــــــــح ـ أيضاً ـ أنَّ الجِنَّ مفترى عليهم، وهو بريئون مما ينسب إليهم مما لم يرد في قرآن ولا سنة، فمن ينصفهم، ومن عذريهم من كثير من علمائنا؟؟؟
لا بد من التنبيه إلى أنه ليس من الموضوعية الإنكارُ على الرأي الآخر، أو التضايق منه، أو محاولة إلغائه، بل يُعَدُّ هذا ضيقاً في الأفق، ودليلاً على قلة الاطلاع، وتحجراً في العقول، وتخلفاً في التفكير.
لكن ما جري من هذه المآسي التي تقدمت ـ ومن المؤكد أن هناك كثيراً غير ما قدمت، بل وهناك ما هو أعظم مما قدمت ـ كل هذا لم يترك مجالا للسكوتِ على مقولة تَدَخُّل الجنِّ في حياتنا، وقبولِ قول الأقدمين فيها، وكان لا بُدَّ من البحث فيها بحثاً يعطي تصورا مُصَدَّقاً لهذه المقولة، أو مُفَنِّدا لها. فباسم هذه المقولة المُدَّعاة: تنتهـــــــك أعـــــــراض في غرف مغلقة، وتُزهَقُ أنفــــــس، وتنتهــــــــــب أمـــــوال، ويفسح المجال للأمراض النفسية أن تفتك، وتتمكن من ضحاياها!
سألني أحد الإخوة: كيف يتكئ هؤلاء العلماء الأفاضل على مثل هذه الأدلة الضعيفة في دلالاتها لإثبات أمر خطير، مثل هذا الأمر؟
فأجبته: إنَّ الذي تَبَنَّى هذه المقولة، وتولَّى كِبْرَ نشرها، ودافع عنها عالمان كبيران جليلان فاضلان هما ابن تيمية، وتلميذه ابن القيِّم ـ رحمهما الله ـ وهذان العالمان موثوق بهما، ومعروف عنهما محاربة البدع، والتصدي للخرافات.
لكن ـ في الوقت نفسه ـ يجب أن نتذكر أنَّ هذين العالمين الجليلين وجدا في عصور التخلف والانحطاط الفكري، اللذين مر بهما العالم الإسلامي، ومن المؤكد أنهما تأثرا بعصرهما، صحيح أنهما ثارا على كثير مما وجداه من تعصب مذهبي، وتمسك بخرافات، وكان لهما في هذا المجال صولات، وخاضا معارك مع كثير من مظاهر التخلف، ودفعا ثمنا باهضا في محاربة ذلك التخلف، لكنهما ـ على ما أعتقد ـ لم يتخلصا تَخَلُّصَاً كاملاً من براثن ذلك الانحطاط.
ثمَّ إنَّ علماءنا المعاصرين ورثوا هذه المقولة عن هذين العالمين الجليلين اللذين يتعصب كثير من العلماء المعاصرين لآرائهما تَعَصُّبا يفوق التعصب الذي يعيبونه على غيرهم. فهم لا يتصورون الخطأ منهما! ولا يتعقلون أن يتبنى أحدهما مقولة خاطئة، إلى حدِّ أنَّ أحدهم قال لي يوماً: كيف تقول عن هذا الحديث ضعيف، وشيخ الإسلام، وابن القيم احتجا به! فهما ـ عند هؤلاء ـ لا يقولان إلا صدقاً، ولا يتبنيان إلا حقاً، ولا يحتجان بحديث إلا إذا كان صحيحا! مع أنَّ كتبهما فيها الكثير من الأحاديث غير الصحيحة.
لذا أعتقد أن العلماء المعاصرين الذين يتبنون هذه المقولة لا يبحثون عن أدلة لإثبات فكرة جديدة، وإنما يتكئون على أدلة ضعيفة لإثبات فكرةٍ يتعصبون لها تعصبهم لذينك العالمين الجليلين ! وهناك فرقٌ كبير بين باحث يبحث ليتأكد من صحة فكرة قرأها، وبين باحث يبحث عن أدلة لإسناد فكرة تبناها مسبقاً، والله أعلم.