في قصة نبي الله يوسف عليه السلام الكثير مما يُتذكر ويُذكر. هنا لمحات عن نساء كنّ حوله، نساء مختلفات، كنّ {... طرائق قددا}، منهن الصالحات، ومنهن دون ذلك.
أم يوسف، أين أنت؟
نجد غيابا شبه تام للأم في قصة سيدنا يوسف -عليه السلام- في القرآن الكريم رغم أن الأم أكثر من يُفجع بغياب الابن. لكن هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة، بل التركيز في السورة كان على الأب وعاطفته وأمله ورجائه في أن يكون ابنه نبيا مثله، وترقبه للزرع أن يستوي، وللثمر أن يينع فينطلق بذكر الله والدعوة له. ويعقوب -عليه السلام- في سورة يوسف لا نراه أبا فقط، بل نراه نبيا يعول على استمرار النبوة من بعده. فالسورة لم تذكره فجيعته كي توثّق ألمه وحزنه على فقد ابنه، بل لتوثق فجيعة شخص رباني يتوجع لفقد فرصة لإصلاح البشرية وتنويرها.
ومثلُ هذا عدم ظهور أب سيدنا موسى عليه السلام في القرآن كله. ولا ندري هل كان متوفى أم لا، لكن المهم أن عدم ذكره ليس دليلا على عدم وجوده حينها. فالقرآن الكريم لا يأتينا بقصص لمجرد السرد، بل لرسالة واضحة ومحددة في القصة، ولذا لا يكون هناك حاجة لتوضيح كل عناصر الحدث، بل ما يتعلق بالرسالة المطلوب منا استيعابها. ولهذا السبب نفسه نجد بعض القصص تتكرر في أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفي كل موضع تركيز على شيء معين فليس الهدف توثيق دقائق ما حدث، بل الإضاءة على ما يخدم الفكرة.
لكن، نجد بعض الناس لا يفهمون هذا يصرون على أنّ أم سيدنا يوسف متوفاة ومرجعهم في ذلك اليهود! وهذا أمر عجيب جدا لأنه يتناقض مع الآية الكريمة {...ورفع أبويه على العرش ...} فيسقط في أيديهم، فيقولون أنه رفع أباه وخالته، لأن الخالة في محل الأم. هكذا من دون دليل سوى قول اليهود! لا مانع أن نستأنس بما ورد في التوراة أن أم سيدنا يوسف وسيدنا بنيامين كان اسمها راحيل أو راشيل، فهذا أمر لا يترتب عليه حكم شرعي، لكن أن نؤول ونلوي آية واضحة حتى تتفق مع ما قالت اليهود، فهذا والله أمر عجيب. وخلاصة الأمر، أن ما جاء في بعض التفاسير للأسف حول كون والدة يوسف عليه السلام متوفاة قياسا على قول اليهود، وقياسا على عدم ظهورها في القصة والمتوقع أن تكون هي الأكثر تأثر بغياب ولدها، كل هذا سببه عدم إدراك أن القصص التي تأتي في القرآن الكريم تأتي لغاية واضحة، غاية أسمى من السرد التقليدي، فهي ليس حكايات بل هي {أحسن القصص}، ومن حسنها أنها تأتي على قدر وبقدر الرسالة التي يريد الله للمؤمنين أن يعوها.
إذا، أين كانت أم يوسف؟ وكيف كان شعورها؟ لقد كانت حتما هنالك، تألم كما يألم زوجها، وبل وربما أكثر. لكن ليس كل الوجع يُكتب.
"فتّش عن الأم"!
يُقال أن يوسف عليه السلام وأخاه بنيامين من أم واحدة، بينما الأخوة العشرة الآخرين السابقين لهما من أم أخرى أو أمهات أخريات. وهذا ملمح خطير إن صحّ، فما السر الذي جعل المجموعة الأولى من الأبناء تختلف خُلُقيا عن يوسف وأخيه رغم أن الأب واحد، وهو نبي، ولا شك أنه حرص على تربيتهم التربية الصالحة كشأن الأنبياء؟ لم حسدوا يوسف، ولم كادوا له هذا الكيد الدبر عن سبق إصرار وترصد؟
كما أن ابن نوح كفر، كما كفرت أمه زوجة نوح من قبل، يبدو أن عصبة العشرة نشؤوا نشأة مختلفة عن الأخوين الآخرين نتيجة لاختلاف أمهم عن أم سيدنا يوسف وبنيامين عليهما السلام. وهنا رسالة خطيرة؛ فلو كان أحد الأبوين غير صالح، فلا نجاة للأبناء حتى لو كان أحد الأبوين نبيا! وبقراءتنا لسورة يوسف نجد ملامح الاختلاف الخُلقي بين المجموعتين. فقد حسدوا يوسف، وخططوا لقتله لولا أن تدارك الأمر واحد منهم (ولعله أكثر العشرة تأثر بأخلاق أبيه)، ثم ألقوه في الجب. وحتى حينما كان يوسف غائبا عنهم لا يثير غيرتهم، لازالوا على حسدهم القديم حينما قالوا {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ...} فلم يدافعوا عن أخيهم غير الشقيق، ولم يحفظوا غيرتهم حتى عن أخيهم الغائب الذي قد يكون مات. هذه الغيرة المتأصلة وسوء الظن والتشهير بشخص غير موجود قد يكون مصدرها فساد المجتمع الذي هم فيه، وغلبة هذه الصفات فيه، أو قد يكون (وهو الأقرب، والله أعلم) تأثرا بخلق أمهم. هذه طبعا افتراضات على اعتبار صحة أن أم الفريقين مختلفة، وأيا يكن، فهو أمر يستحق التفكير والبحث.
كيدهن وكيدهم
لو كان للكيد يد في الأمر، لرفع دعوى قضائية مستعجلة أمام كل من أساء له بأن حصر سلطاته، وقلم أظافر طغيانه. الكيد كيان غشوم، نهوم، يهوى غزو النفوس دون أن يضع شروطا للنفس التي يستعمرها، فكيف وبأي حق نحصره في النساء حينما نقول "كيد النساء" وحينما نقتبس الآية الكريمة {... إن كيدكن عظيم} وننسى عمدا وبمنتهى الظلم {... لا تقص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ...}! ذاكرتنا الانتقائية تنسى أن الكيد في هذه السورة طال الرجال كما طال النساء.
ثم مهلا، من قال أن الكيد دائما شيء مرذول؟ هذا الكائن المؤذي له تجلٍ آخر لطيف، الكيد قد يظهر في صورة تدبير، وهذا الكيد المستنير نسب إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}. بل أن رب العزة عز وجل وصف به نفسه حينما قال {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
وقد يقول قائل أن الكيد يشيع بين النساء أكثر من الرجال، ويدبّح الأمثلة والشواهد التاريخية والتراثية والنفسية دون أن يكلف نفسه أن يطرح السؤال الأهم: لماذا؟ إذا سلمنا بأن النساء يكدن ويمكرن ويؤذين أكثر من الرجال، لم كان ذلك؟ ولم هو مستمر؟ هل هو جزء من طبيعة المرأة التكوينية التي فرضها الله عليها؟ اللهم لا! لأنه لو كان هذا قدرنا، ولو كانت هذه خلقتنا التي كتبها الله علينا، لعنى ذلك أننا معفيات من العقاب أو العتاب تجاه أي كيد نكيده، فنكون إذا في حكم المسيّرات، وليس على المجبر حرج!
بدل التبجح والاستهزاء بشيوع الكيد ولؤم الطباع لدى كثير من النساء، يجب أن يرفع إصبع الاتهام تجاه الآليات التي أفرزها المجتمع، والتي حملت النساء على ذلك؛ التراث المليء بالقمع، اللاشعور الجمعي، التراث والأدب والصور اللاواعية التي يبثها، حتى اللغة، كل هذه تتضافر لتكون صورة المرأة عن نفسها. حينما يشعر الإنسان أنه مغلوب على أمره، مقهور، محدود في تحركاته، منقوص الإنسانية، سيصنع هذه الآلية الخفيّة التي تمكنه من أن ينفّس عن قهره دون أن يقبض عليه، وأن ينتقم دون أن يُنقم عليه. يقمعون المرأة، ويهمشونها، ويحصرونها في أدوار هم يختارونها لها، ثم يسألون: لم هي سخيفة ولئيمة وعسرة الطباع؟!
امرأة العزيز ونسوة المدينة
هناك من يهوى أن يستنبط صفات نفسية المرأة من خلال دراسة أفاعيل امرأة العزيز وصويحباتها! وفعل ذلك يوازي معرفة التكوين النفسي للرجل من خلال دراسة نفسية فرعون والنمرود مثلا! {مالكم كيف تحكمون}؟
امرأة العزيز والمحيطات بها فئة معينة من فئات المجتمع، نساء مرفهات بإفراط، عاطلات عن دور محدد، اعتدن الثرثرة والتفكه بالآخرين {وقال نسوة في المدينة ...}. هذه الفئة تحمل كل مؤهلات الانحراف، ليس فقط لأنهن نساء، بل لحالة الترف المفسد، الذي لا يفرق بين الجنسين حينما يعصف. أي إنسان معرض للوثة من التفاهة والغرور والتسلي بالآخرين حينما لا يكون له دور محدد في الحياة. وهكذا كن أولئك النسوة. العجيب والمضحك أن هناك من يظن أنه بتسفيه المرأة وحبسها عن ممارسة أدوار عامة، ستكون فاضلة طاهرة، وما علم أن هذه القيود هي أسهل وسيلة لإفسادها، لأنها تشعرها بمحدوديتها، فتبحث لنفسها عن تسلية وضيعة لائقة بهذه المحدودية التي تحيطها من كل حدب وصوب.
ملمح مخيف آخر في قصة يوسف مع صويحبات امرأة العزيز. فامرأة العزيز لم تكتف بالاعتراف أمامهن بفعلتها، بل أحضرته لهن ليُفتن به بدورهن، لـ"يضيع الدم بين القبائل"، و"يضيع الأبتر بين البتران" كما يقول المثل الشعبي. فهي علمت بأن إنكارهن لفعلها ليس إنكارا صادقا للمنكر وخوفا على المجتمع منه، بقدر ما هو استهزاء لئيم ولوك لسمعة الآخرين. وكان انتقامها لهن بأن فتنتهن معها. وبعد أن كانت تراود يوسف وحدها، أصبحن هن أيضا يراودنه! والدليل هو: {وإلا تصرف عني كيدهن ..} و{ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ...}.
كل هذه الملامح من نسوة كأولئك تستحق الدراسة فعلا، لا كي نشنع عليهن، بل لكي نعرف الظروف التي أنتجت هذه النوعية من النسوة الفارغات، ولكي نقارنها بظروف المرأة في عصرنا هذا، لعلنا نجتنب ونجنّب ديننا ومجتمعنا كثيرا من الشر.