هذه كلمة كتبتها قبل سنوات قليلة، ورأيت أن أُعدِّل فيها وأبدِّل كي ينتظم سطرها ومعناها مع ما نحن فيه اليوم من ثائرة وثورات، إلا أنني وبعد تردد اخترت أن أسوقها كما قلتها أول مرة، فإليكَها نقلاً من غير تغيير:
لقد أراد الله أن يكون هذا الخلق فكان، وأراد أن تحيا هذه النفوس إلى أجل مسمى فقدَّر خلقها وقدر آجالها، فمن اعتدى على نفسٍ خلقها الله - ولا خالق غيره - فلا شك أنه ظالم لنفسه مرتكبٌ جرمًا عظيمًا قد يخلِّده في نار جهنم، ومن أظلم ممن اعتدى على حق من حقوق اللهِ فاجترأ عليه وحارب الله في إرادته وتقديره؟
فقد أراد الله أن تحيا هذه النفس ، وأراد القاتل غير ذلك، فاستعمل ما سخر الله له من عقل وإمكانات فيما حرَّم الله، فقتل وظلم واعتدى بما أوتي من قوة وسلاح ومكر وخديعة، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾[1]. وقال جل وعلا : ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾[2]. ففي هاتين الآيتين إنذار ووعيد وتغليظ شديد، هذا إذا كانت نفسًا واحدة، فكيف بمن اتخذ القتل هواية يتلذذ بها ويتشحط بدمائها؟ وهو أمر حاصل، وواقعٌ مشاهد .
إنَّ نفسًا واحدة يُقدِم على قتلها ظالمٌ لنفسِه معتدٍ أثيمٌ قد تجد لِفِعْلته ما يبررها، كثورة غضبٍ أو سكرة عربيد، إلا أنك لا تجد تفسيرًا أو تعليلاً لذلك السَّفْح والسفك من ذلك السَّفاح السَّفاك الدموي الذي استشرب باله وخياله بلون الدماءِ فأبادَ وأبار كما فعل حجاج الأمويين ومبيرهم ، وكما ترى وتسمع اليوم من ظلمة هذا العصر في شتى المعمورة، فكم هو عظيم جرم ذلك الجريم! وكم هي عظيمة عقوبة ذلك المجرم الأثيم! والقتل مسلك عرفته البشرية منذ قتل قابيل أخاه هابيل، فلم يخل منه عصر ولم يسلم منه جيل، غير أن انتشار هذا الفعل وظهوره ظهورًا مختلفًا عما ألفته البشرية يُعَدُّ بداية نذيرٍ لأمر معلوم، ووقت معلوم، فمتى ما رأيت انتشاره واستسهال الناس به فاعلم أنك داخل في مرحلة جديدة من الزمن تسمى مرحلة آخر الزمان .
إن كثرة القتل أو الهرج – كما جاء في الحديث – علامة من علامات قرب قيام الساعة ودنو يوم القيامة، وإن هذه العلامة قد وقعت وتحققت عند كل ذي سمع وبصر، بل إنك لتدركها - لو شئت - بواحدة فقط من حواسك الخمس، حتى أنك لتستطعِم حقيقةً مرارةَ وشناعة ما يحدث من حولك ولو ألِفَه السمع وألفه البصر، فلقد انتشر القتل والذبح بكل سلاح وعلى كل طريقة، حتى ظهر في المجتمع وساد، وحتى أصبح أمرًا مألوفًا أن يسقط كلَّ يوم قتيل أو عشرة أو عشرات أو مئات؟ فكم من يدٍ غادرة تمتد ظلمًا وعدوانًا إلى دم معصوم! وكم من فئة متربصة بآخرين! وكم من كمين ينصب كلَّ ساعة وكل حين! وكم من غارةٍ وغارة يشنها عتاة متجبرونَ بما ملكوا من طائرات وصواريخَ على أناس غافلين لا حول لهم ولا قوة! وكم من حرب وحرب اشتعلت ولم تَخْبُ لا لشيء إلا لتطحن جماجم الأحياء وتبيد البشر! ولعل مبدأها وفاتحتها ما حصدته الحربين العالميتين .
ولا يخفى على عاقل ما يقع اليوم في المعمورة من عارٍ ودمارٍ وشنار، فقد كثر القتل واشتد الهرج، وتلاطمت أمواج الفتن، وانتهكت المحارم، وقُتِّلَت أرواح الأبرياء، وأريقت دماء كثيرة، ولا نزال بازدياد على وتيرة هوجاء عمياء صماء لم تُعرف من قبل .
ومما يروى بهذا الشأن حديث أبي موسى وهو بالدير من أصبهان، قال: (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ بين يدي الساعة الهرج . قال : فقلنا : وما الهرج؟ قال : فقال : القتل . قال : فقلنا : والله إنا لنقتل في العام الواحد أكثر من سبعين ألفا من المشركين . قال: فقال: والله ما هو بقتلكم المشركين، ولكنه قتل بعضكم بعضًا . قال: فقلنا: وفينا كتاب الله عز وجل ، ومعنا عقولنا ؟ قال: وفيكم كتاب الله، قال: إنكم لترون أنَّ معكم عقولكم غير أنه تنـزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان ، ويرون أنهم على شيء وليسوا على شيء ، ويخلف له هباء من الناس يرون أنهم في شيء وليسوا في شيء . قال : فقلنا : ما المنجى من ذلك ؟ قال : ما أجد لي ولكم منها منجى إنْ هي أدركتنا فيما عهد إلينا نبينا عليه السلام إلا أن نخرج منها كيوم دخلناها ))[3]. رواه أحمد وأبو يعلى وقال حسين أسد: رجاله ثقات . وابن ماجه وقال الألباني : صحيح . والحاكم وصححه وقال الذهبي : على شرط البخاري ومسلم . والهباء : الشيء الذي لا قيمة له ولا وزن ، كالغبار الذي تراه في ضوء الشمس الداخل لغرفتك من كوةٍ أو خصاصِ بابٍ أو فتحاتِ شقوق. وفي اللسان : (( الهباء في الأصل ما ارتفع من تحت سنابك الخيل ، والشيء المنبث الذي تراه في ضوء الشمس ... و الهباء من الناس الذين لا عقول لهم ))[4] . قال تعالى : ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾[5]. قوله : (( إلا أن نخرج منها كيوم دخلناها )) : أي لانُحدِث فيها شيئاً ، والمقصود البعد عن الفتن والهرب منها ، ويفسر ذلك ما جاء عند أحمد في رواية أخرى حيث قال: (( والذي نفسي بيده لا أجد لي ولكم إن أدركتهن إلا أن نخرج منها كما دخلناها لم نصب فيها دماً ولا مالاً ))[6] .
ومن الأحاديث الدالة على كثرة الهرج في آخر الزمان ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ، ولا المقتول فيم قتل . فقيل : كيف يكون ذلك ؟ قال : الهرج ، القاتل والمقتول في النار ))[7] . والهرج : التوسع في القتل والإكثار منه بغير ضابط ولا رادع ، وسيأتي بعد قليلٍ إن شاء الله تعالى شرح مفصل بشأن هذه الكلمة .
وقد يصعب على المرء في الأزمنة السابقة أن يتخيل صورةً لذلك القتل القادم الذي لا يدري فيه القاتل علامَ قَتَل ولا المقتول فيمَ قُتِل، أما في زمننا هذا فالأمر واضح جلي لكل أحد، وقد تحقق فيه ما لم يستطع تصوُّرَه الأولون، فها هي الجيوش النظامية التابعة للدول قد جهزتها حكوماتها واستعبدتها بما تعطيها من معاشات وملذات، فأصبحت رهن إشارتها تأتمر بما يملى عليها في طاعة عمياء، وقوة صماء، لا رأي لهم فيها ولا مشورة، فلا غرابة في زمننا أن يأمر الحاكم جنوده فيقتلوا فلانا أو فلانة، أو يقتلوا مجموعة من الناس لا يدري المقتولُ لِمَ قُتل ولا الجنودُ بأي ذنب يقتلون. وقد يوجِّه الحاكم جيشه بأكمله لقتال دولة مجاورة أو شعبٍ في آخر الأرض، فيزحف الجنود أو تطير لا تعرف السبب ولا الهدف، ولا تسأل عن العاقبة ، بل لا يحق لها أن تسأل أو تستفهم، فيُقتل من هؤلاء ويُقتل من هؤلاء، وتفنى الكتائب والسرايا، وتُهدَّم الديار، وتنتهك المحارم، وتراق دماء الشعوب، وتمزق الأجساد، وتحرق الأرض والديار، لا يدري أحدهم بمسببات ما يجري، فلا القاتل يدري لِمَ قَتل ولا المقتول علام قُتل .
لقد أصبح الجندي في هذا الزمن آلة صماء بيد سلطان جائر، إن شاء أرسله لمحاربة من لا يستحق، وإن شاء أقعده عمن يستحق، فاختلطت المفاهيم واضطربت النظم والقوانين، واستشرى الظلم والجهل، ولم يعد لأحد أن يفهم ما يقع من قتل وحروب، لا أسبابها ولا دوافعها ولا غاياتها ونهاياتها، ولا أطرافها ومحركاتها ومصادر تغذيتها وإمداداتها، وأصبح القتل يقع والأسباب مجهولة، مجهولة لدى القاتل ومجهولة لدى المقتول، ولربما قامت معركة وانتهت لا تُعرف مصادرها ولا مَن قام بها، ولا من أرسل أو دفع جنودها، ولا من كسب أو خسر فيها، ولو استخبرت عنها بكل سبب أوتيته لما استطعت إلى فهمها سبيلاً. فكم من جيش ليليٍّ! وكم من حزب سريٍّ! وكم من عصابة مستأجرة! وكم من بائع لدينه وضميره! وكم وكم! بل يكفيك مثالاً على جهل السبب عند القاتل والمقتول ما يقع داخل السجون ، وفي بعض أماكن المحاكمات والتحقيقات، فقد يموت السجين بسبب ما يلقى من شدة وتعذيب، وقد لا يدري ما أصل القضية وما الدافع لانتزاع اعترافٍ لم يعرفْه، أو الدافع لإدانته بذنبٍ لم يقترفْه. وقد لا يدري المحقق أيضاً لِمَ طُلِب منه هذا التحقيق، ولا ما الغاية الأخيرة من وراء هذا التعذيب الذي يزهق به روح معذَّبٍ سجين ، ولا ما الهدف الأخير من السعي لإلصاق التهمة عمداً بهذا السجين أو ذاك، وقد لا يعلم شيئاً عن القضية إطلاقًا ، فليس إلا موظفًا مجردًا لا لشيءٍ إلا للتعذيب فقط، فصَّلوه وخيَّطوه ووظَّفوه وأطلقوه في مجزرة لا يذكر فيها اسم الله، فلا همَّ له إلا انتظار مَن يقاد إليه قياد الشاة لجزارها، ممن رمتهم منيتهم في مشانقِه ومقاصِله. دَرَسَ فنون التعذيب وسكراتِه ، ثم تخندق بانتظار شاته، لِيَفْتَنَّ في ذبحها ورفعها وسلخها، وشَيِّ قصَبِها وعصَبها إرضاءً لكبرياء سيدٍ متجبرٍ أو حاكم متغطرس، علَّ شيئاً يناله، أو كلمةَ شكرٍ يُذكر فيها فينصبها بَجَحا وفخارا فوقه أو أمامه، من غير أن يذكر فيها اسم قتيله الذي نال بإراقة دمه هذا الشكر والتقدير، ولا عدد قتلاه بسوطه وعذابه ، ومن غير أن يذكر فيها كنه عمله الذي نال بسببه هذا التمجيد والتسييد، فأصبح يدعى بالسيد المهاب بدلاً من أن يقال: المجرم الجزار والظالم الغدار. إنَّ هذا القتل الذي نراه اليوم ونسمعه ، وهذه الحال البائسة الدموية المضطربة، لا يكفي أن يطلق عليها لفظة: ( قتل )، بل تعدت الحال ذلك حتى صارت الحال التي نراها اليوم هرجا كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قتلاً.
لقد وقع الهرج في زمننا هذا بشكل ربما لم يخطر على قلب كاتب أو شارح ممن كان قبلنا، فها هي الدماء تسيل في كل مكان، وتراق بسبب وبلا سبب، رقاب تتقطع ورؤوس تتدحرج، وحروب مستشرية يقتل فيها الجاني وغير الجاني، وربما قُتِل أهل بلد من أجل قتل رجل واحد فقط، فتُهدَّم البيوت وتطلق النار في كل مكان ، ويحاصر الناس ويمتحنون من أجل رجلٍ واحدٍ لا يبالون بما فعلوه لقاء القبض عليه. إنَّ كل ما يحدث من ألوان القتل والحروب في زمننا هذا من كثرة ومن ظلم وعدم مبالاة في دماء الأبرياء ، وفوضىً في اتخاذ القرار واستهانةٍ بالشعوب والدماء كله داخل في معنى : ( الهرج ) .
والهرج هو القتل ، أو هو الحال التي يصل أمرها إلى استمراء القتل واستسهاله، فكلاهما إزهاق للنفس إلا أن الهرج يتصف بالكثرة والإسراف في القتل، فإذا انتشر القتل وتوسع فيه القتلة وصار أمرا متكررا، وأصبح غير معروف الدوافع والأسباب، وحرَّكته البلبلة، وسيَّرته الفوضى والعشوائية؛ انتقل من صفة القتل إلى الهرج. ولا يقع مثل هذا الحال إلا في وقت الفتن نسأل الله السلامة والنجاة، ونعوذ به من الشر وأهله، وقد يظن الكثيرون أنَّ الفتنة ليست إلا نازلة أو كارثة تفاجئ المجتمع وتذهل أهله، ويغيب عنهم أنَّ من الفتن ما يطول زمنها ويمتد حتى يألفها الناس ويتعايشون معها، وكأنهم ليسوا في فتنة، فكثرة الهرج ولو طالت سنونه فتنة ، وضياع الدين ولو ألفه الناس فتنة، وجور الحاكمين وظلم الظالمين ولو صبر الناس فتنة. ويتضح معنى الهرج في حديث أبي هريرة السابق حينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كيف يكون ذلك ؟ قال : الهرج ))، مما يعني أنه قتلٌ كثير لا تعرف أسبابه، وفيه إشارة إلى الفوضى الحاصلة حينئذٍ وإلى سرعة القتل، ومع أنَّ هذا الجواب لا يشتمل إلا على كلمة واحدة فقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها قد شرحت وفصلت ما سبقها من كلام، وكشفت سر ذلك القتل الذي لم يتصوره صحابته رضوان الله عليهم فسألوا. فقال في كلمة جامعة : (( الهرج )) ، أي : الفوضى والفتنة والانفلات والغضب والكثرة في هذا الفعل والجرأة والتساهل .. حين لا يأمن المرء جليسه كما ورد في حديث وابصة الأسدي عن ابن مسعود : (( قلت : يا رسول الله ، ومتى ذلك ؟ قال : ذلك أيام الهرج ، حين لا يأمن الرجل جليسه )) ، رواه أحمد والحاكم وغيرهما . قال ابن حجر في فتح الباري حول كلمة الهرج : (( قوله : ويكثر فيها الهرج والهرج القتل : كذا في هاتين الروايتين ، وزاد في الرواية الثالثة - وهي رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش - والهرج بلسان الحبشة : القتل ، ونسب التفسير في رواية واصل لأبي موسى . وأصل الهرج في اللغة العربية : الاختلاط . يقال : هرج الناس اختلطوا واختلفوا ، وهرج القوم في الحديث إذا كثروا وخلطوا . وأخطأ من قال : نسبة تفسير الهرج بالقتل للسان الحبشة وَهْمٌ من بعض الرواة - وإلا فهي عربية صحيحة ، ووجه الخطأ أنها لا تستعمل في اللغة العربية بمعنى القتل إلا على طريق المجاز ، لكون الاختلاط مع الاختلاف يفضي كثيراً إلى القتل ، وكثيراً ما يسمى الشيء باسم ما يؤول إليه ، واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبش ))[8] . وقال في مشارق الأنوار : (( وفي بعض الروايات الهرج القتل بلغة الحبشة وهمٌ من قول بعض الرواة وإلا فهي عربية صحيحة ))[9] . وفي التمهيد قال : (( وأصل الهرج اختلاف الناس من غير رئيس ، وذلك يدعوهم إلى القتل ))[10] . وفي النهاية لابن الأثير : (( وأصل الهرج الكثرة في الشيء والاتساع ))[11] . (( وفي حديث صفة أهل الجنة : إنما هم هرجا مرجا . الهرج : كثرة النكاح . يقال: بات يهرجها ليلته جمعاء . ومنه حديث أبي الدرداء : يتهارجون تهارج البهائم . أي : يتسافدون هكذا ))[12] . وعن أبي موسى قال : (( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة - وأنا شاهد - فقال : لا يعلمها إلا الله ، ولا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأحدثكم بمشاريطها وما بين يديها ، ألا إنَّ بين يديها فتناً وهرجاً . فقيل : يا رسول الله ، أما الفتن فقد عرفناها ، فما الهرج ؟ قال : بلسان الحبشة القتل . وأن يلقى بين الناس التناكر فلا يعرف أحد أحدا ، وتجف قلوب الناس ، وتبقى رجراجة لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا )) ، رواه أبو يعلى، قال الهيثمي : (( في الصحيح طرف من أوله )). وخير الناس في مثل هذه الحال هو التقي النقي الخفي، وشرهم فيها الخطيب المصْقِع، والراكب الموضِع ، والجريء الشجاع الذي يخوض غمارها ، ويتخبط في ظلماتها . وروى مسلم وغيره عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( العبادة في الهرج كهجرة إلي ))[13] . (( وسبب كثرة فضل العبادة فيه أنَّ الناس يغفلون عنها ، ويشتغلون عنها ، ولايتفرغ لها إلا أفراد ))[14] ، قاله النووي . وأورد ابن حجر في فتح الباري كلاماً للقرطبي قال فيه إنَّ في حالة الفتن والمشقة البالغة : (( يخف أمر الدين ، ويقل الاعتناء بأمره ، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به ، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة ))[15] . قلت : هذا تعليل يحتاج إلى زيادة ، فلا أظن أنَّ الإنفراد بالعبادة في زمنٍ يقل فيه العبَّاد هو وحده الذي يوصله إلى درجة المهاجر أو الهجرة ، ولكن لما كانت العبادة مناقضة للهرج، وكان الإنشغال بها هو العلاج الناجع لدحره ولجمه، صارت - لمن اتخذها سبيلاً للهروب عن الهرج - سببًا في استحقاق هذا الفضل الكبير المساوي لفضل المهاجر، ولأبين هذا أكثر أقول :
1 - إنَّ من شأن العبادة أن تشغل صاحبها ، فتبعده عن الفتنة ، وتجره من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن ، ولذا جاء هذا الحديث ليحث الناس على البعد عن الفتن ، والابتعاد عن سبل الهرج ومواقعه، وليأمرهم بهجرها وأهلها، وهذا السبيل الناجع لو اتبعه الناس لأخمدت نار الفتن في مهدها، ولكن هيهات، والحمد لله على ما قضى .
2 - إنَّ في عبادتك أيام الهرج والفتن واعتزالك إياها منفعتين لا تخفيان ، الأولى : حماية دينك ونفسك وأهلك من فتنة قد تسلبك في طرفة عين .
الثانية : حماية الناس الآخرين وصيانة أعراضهم ومحارمهم مما قد تقترفه بحقهم فتسفك دما أو تهتك عرضاً أو ترتكب كبيرة، وهذا فيما أراه - والله أعلم - هو الذي جعل أمر العبادة عظيما، لأنها تصرفك عن الوقوع في الهرج أو المشاركة فيه .
3 - إنَّ لزوم العبادة في مثل هذه الحال فيها مشقة ، فهي تتطلب جهدا وجهادا للنفس والهوى، ولذلك استحق صاحبها فضلاً كفضل الهجرة ، لأنه انتقل بنفسه وهواه عن حال محيطة به من كل جانب ، فمع أنه يعيش بينهم إلا أنه هاجر بروحه وقلبه إلى الله ورسوله لا ينفك يصارع النفس والهوى والشيطان وجمهور الناس، وهذا لا شك أنه يحتاج إلى جهد وقوة إيمان . فيصير بهذا الانشغال غريبا بين الناس، مهاجرا من حالهم إلى حال الورِع الزاهد، وهذا التصبر والتكلف وهذه المشقة هي التي جعلته يستحق درجة الهجرة، لأنه فر من الهرج وكفى الناس شرَّه ، فلا وقع ولا شارك .
4 - إنَّ الفتنَ وإنَّ أيام الهرج قد تنشأ بسبب أمر يتعلق بالدين وليس بالدنيا، فقد يكون الدين حاضرا في أذهان الناس ولم تصرفهم الدنيا عنه، ولكنَّ فساد الرأي يفسد المنهج، ولك أن تستحضر هنا ما وقع بعد مقتل عثمانَ رضي الله عنه من فتنٍ وخروج، فالعبادة أصبحت كالهجرة لأنها نقيض الهرج والفتن والفوضى، فلذا أمر بها صلى الله عليه وسلم حال الفتن الشديدة .
5 - لو كان هذا الفضل غير خاص بأيام الهرج لما قيده صلى الله عليه وسلم هنا، ولأدركه كل من انفرد بالعبادة في زمنٍ انصرف فيه الناس عن الدين وانشغلوا بدنياهم، ولكنه قيده بأيام الهرج، مما يدل على أنَّ وقوع الهرج هو السبب في نيل هذه الدرجة، أي أنَّ الهرج هو الباعث على قول هذا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما إذا أغفلت الهرج في الحديث وتحدثت عن العبادة فقط فكأنك تجاهلت أمر الهرج في الحديث وهذا غير سليم، إلى هنا تنتهي مناقشة ما ذكره النووي والقرطبي ، والله أعلم بالصواب .
وعودا على بدء أقول إنَّ معنى الهرج كما فهمتَ مما تقدم ليس القتل فقط، فالقتل هو القتل، ولكن الهرج قتل مستوحِش ومستسهَل، ولا يقع إلا في زمن فتن وانفلات، ولا تقع الفتن المقصودة هنا ولا يقع الانفلات إلا في زمنٍ يزول فيه العلم ويظهر الجهل، وظهوره هنا انتشاره وتفشِّيه وغلبته، وفي الصحيح : (( بين يدي الساعة أيام الهرج، يزول فيها العلم ويظهر فيها الجهل ))[16]، رواه البخاري وأحمد وأبو داود الطيالسي، فليس الهرج بمطابق لمعنى لفظة القتل. ولعل قوله صلى الله عليه وسلم : (( هو بلسان الحبشة القتل )) إنما أراد إيصال معنىً ثانٍ للفظة القتل العربية، وهذا المعنى الثاني هو الذي تحمله كلمة القتل الحبشية، لأنَّ القتل الحبشي إذا وقع استشرى، فثارت الضغائن واختلطت العقول، فصار موافقا تماما للفظة الهرج بالعربية، فإنَّ القتل زمن الهرج يستشري وتثور الضغائن وتختلط العقول ويسهل إراقة الدماء، ولا يعني هذا أنَّ لفظة الهرج خاصة بألفاظ الحبشة فقط بل هي عربية كما نبَّه عليه العلماء، ولكنها تتوافق في معناها مع صفة القتل إذا وقع عند الحبشيين، والله أعلم . ومما يدل على عشوائية القتل واختلاط العقول ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : (( عن مسروق قال : قدمنا على عمر فقال : كيف عيشكم ؟ فقلنا : أخصب قوم من قوم يخافون الدجال . قال : ما قبل الدجال أخوف عليكم ، الهرج . قلت : وما الهرج ؟ قال : القتل ، حتى إنَّ الرجل ليقتل أباه ))[17] . رواه ابن أبي شيبة. ومع كل ما مر من تفصيل في معنى الهرج إلا أنَّ الأثر القائل : (( وإذا كثر الهرج كثر القتل )) يفيدك بأنَّ الهرج غير القتل ، وأنَّ طريق القتل الجماعي وبوابته العريضة هو الهرج، وأنه سلوك إلى حياة البلبلة والفوضى، وانقياد لطيش النفس، وسعي في نبش الفتنة، وتحريض على إيقادها. فما أشد القتل اليوم! وما أكثره! وما أبشعه! فلقد افتَنَّ به محبوه أعداء البشرية، حتى استطاعوا القتل بالمئات بل بالألوف، ولربما استطاعوا قتل جميع أهل البلد بلمحة بصر. فكم من جرمٍ وهول وفضاعة تركَتْه أسلحة الدمار الشامل في البر والبحر والجو! ولعل عصرنا هذا هو العصر الوحيد الذي قامت فيه حربان طاحنتان عالميتان، طالتا جميع أقطار الأرض وساكنيها حتى اصطلحوا على تسميتهما بالحربين العالميتين.
هذا ما خطه قلمي منذ بضع سنوات، وقد نقلته كما هو، ولا أرى ما يقع اليوم من حروب وثورات إلا مصداقًا لما جاء فيه، ولا أراها اليوم - وبعد أن طافت البلاد وخبطت العباد بيدها ورجلها - إلا في ازديادٍ لا يعلم منتهاه إلا الله، وما يخطئ فيه أكثر الناس أنها حرب أو أحداث يومية، وليست كذلك، بل هي مرحلة زمنية جديدة في الكون والزمان دخلتها البشرية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فلن تعود الحال كما عرف الناس ولو تولى رئيس ورئيس، بل إن عالم اليوم سينتهون عما قريب إلى صورة مختلفة تمامًا عما هم عليه اليوم من حدود وتقسيمات وجنسيات، ولا أرى حرب الشام إلا نواة هذه المرحلة الزمنية الغيبية المنذرة بما بعدها، ولئن كان فيها بشارة للإسلام وأهله - ولو من بعيد - ففيها نذارة لمن غرته الدنيا وظن أن ما يعيشه اليوم هو الحياة.
[1]( النساء الآية : 93 ) . [2]( المائدة من الآية : 32 ) . [3]مسند أبي يعلى ج : 13 ص : 222 ق : 7247 ابن ماجه ج : 2 ص : 1309 ق : 3959 أحمد ج : 4 ص : 391 ق : 19510 المستدرك على الصحيحين ج : 4 ص : 565 ق : 8587 المستدرك على الصحيحين ج : 4 ص : 498 ق : 8392 مصنف ابن أبي شيبة ج : 7 ص : 480 ق : 37384 [4]لسان العرب ج : 15 ص : 352 مادة : ( هبا ) . [5]( الفرقان الآية : 23 ) . [6]أحمد ج : 4 ص : 392 ق : 19517 [7]مسلم ج : 4 ص : 2231 ق : 2908 [8] فتح الباري ج : 13 ص : 18 [9] مشارق الأنوار ج : 2 ص : 267 [10] التمهيد لابن عبد البر ج : 19 ص : 199 [11] النهاية في غريب الأثر ج : 5 ص : 256 [12] المرجع السابق . [13]صحيح مسلم ج : 4 ص : 2268 ق : 2948 صحيح ابن حبان ج : 13 ص : 289 ق : 5957 سنن الترمذي ج : 4 ص : 489 ق : 2201 سنن ابن ماجه ج : 2 ص : 1319 ق : 3985 [14]شرح النووي على صحيح مسلم ج : 18 ص : 88 [15]فتح الباري ج : 13 ص : 75 [16]صحيح البخاري ج : 6 ص : 2590 ق : 6656 أحمد ج : 1 ص : 439 ق : 4183 مسند الطيالسي ص : 35 ق : 263 [17]مصنف ابن أبي شيبة ج : 7 ص : 466 ق : 37279
تدقيق: لجين قطب.