إنّ جملة نداء بسيطة مثل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ" في مطلع الآية الأولى من سورة الحج، تضع من سيُقدم على ترجمتها في حرج وحيرة وعجز[1]؛ فصيغة النداء العربية: "يا أيها" فيها فيها نداء وتنبيه للقريب وللبعيد، وتتضمن معاني الاحترام والتكريم والتلطف والقرب. بينما أداة النداء "يا" قصيرة وتوحي بمفردها بالنداء المباشر والجاف. فنداؤك البنتَ بقولك: "يا بنتُ" صيغة نداء مختلفةٌ تمام الاختلاف عن قولك: "يا أيها البنتُ". ذلك أن "البنت" في النداء الثاني مُعَرّفة، وقد توجهت لندائها بكلمتين اثنتين مما يعد من اللطف وحسن التقرب. ولا يوجد في اللغات الغربية ما يماثل صيغة "يا أيها" الجميلة بكل رقتها وأدبها. لذلك أغفلها المترجمون كلية أو استخدموا حرف النداء "O" إذ هو الوحيد المتوفر في معجم اللغات اللاتينية.
ثم نأتي لكلمة "الناس"، والأصل في الناس "الأُناس". و"الأََنَس" بفتحة على الهمزة والنون وهو خلاف الوحشة. و"الإِنس" بكسر الهمزة وسكنون النون: البشر. و"الأُنس" بضم الهمزة وسكون النون وهو ضد الوحشة[3]. أي أنّ كلمة الناس تحتوي دلالات عاطفية إيجابية تتضمن المؤانسة وتنفي الوحشة. بينما ليس أمام المترجم لترجمة كلمة "الناس" إلا أن يختار بين ثلاث كلمات: people, mankind, human beings. وعند استعراضي للترجمات اللاتينية الأربعة الأولى وجدت التالي أنّ روبرت كيتون ترجم "يا أيها الناس": "race of the humans" أي "يا جنس البشر". وهو اختيار جيد حيث أن كلمة "humanum,human" تتضمن المعاني الإيجابية لخصائص وطبيعة البشر. بينما استخدم مارك توليدو: "O you men" أي "يا أيها الرجال"، واستخدم فلافيوس ميثيريداتس: "O race of men" أي "يا سلالة الناس"، وكذلك فعل أيخيديو دي فيتيبرو. والترجمة الفرنسية الحديثة لمحمد حميد الله والتي تبناها مجمع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم، تستخدم: "O hommes" أي "يا رجال". وكلمة "رجال homines,home,men " تتضمن معنى الذكورة، والمقدرة الجنسية، والقوة، والشجاعة. وهذه الترجمات كلها تضيّق المعنى المراد لله تعالى، ولا تؤدي المقصود له سبحانه، والله أعلم.
وأخيرًا لننظر كيف تُرجمت "اتقوا". وهنا أجمع المترجمون الأربعة الأوائل الذين ترجموا القرآن الكريم إلى اللاتينية والوارد ذكرهم في الفقرة السابقة على استخدام كلمة "time" أو "timete" اللاتينية بمعنى "خافوا". وحتى محمد حميد الله فقد استخدم "craignez" بالفرنسية، واستخدمت الترجمات الإنجليزية "fear" بمعنى خافوا أيضًا. فالله سبحانه وتعالى أمر الناس بالتقوى ولم يأمرهم بالخوف، وإن كان الخوف من جملة معاني التقوى، لكن دلالة التقوى أوسع بكثير؛ فالتقوى تحض على عمل إيجابي، وهو "التزام المأمورات التي تحقق الخير، واجتناب المنهيات التي تؤدي إلى الشر والخسران"([4]). والتقوى من الوقاية أي تنفيذ الأعمال التي تحول دون وقوع المحذور. أما الخوف وحده، فهو شعور سلبي محيّر لا يفتح بابا للنجاة والأمل.
وهكذا نرى أنّ ترجمة هذه الكلمات الأربعة من كلام الله عز وجل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم"ْ كانت ترجمة ناقصة تمامًا، لم تؤدِّ المعنى المطلوب وهو "رعاية الله للناس وتلطّفه لأمرهم ودعوتهم لعمل الطاعات المنجيات واجتناب المعاصي المهلكات حتى ينجوا من عذابه ويفوزوا بالجنة". وغيرت صيغة الخطاب "يا أيها الناس"، وقد فشلت في تحديد هوية مَنْ وُجّه الخطاب إليه، والأهم من ذلك غيّرت الأمر الصادر من الله عز وجل للناس، وطلبت منهم شيئًا آخر (أيها الرجال أو يا ناس، خافوا ربكم).
ولا نستطيع أن نلوم مترجمًا في ذلك؛ إذ إنَّ خصائص اللغات تختلف، ولا تتماثل اللغات في تركيبها البنيوي.
وفي العربية ترابط بين أصوات الحروف ومعاني الكلمات ودلالاتها، مما لا يوجد مثله دائمًا في اللغات الأخرى؛ فالقرآن الكريم لا يُقرأُ ولا يُفهم على الوجه الكامل إلا بالعربية، ويزداد فهم المرء للقرآن كلما زاد تمكنّه من اللغة العربية؛ لأنه معجزة لُغوية تحدى الله البشر أن يأتوا بسورة من مثله، ووجه هذا التحدي ابتداءً إلى العرب في زمن الوحي، وكانوا يومها قمة في الفصاحة والبلاغة.
وأنا أرى أنه لا يصح أبدًا أن نقول: "ترجمة القرآن"؛ لأن القرآن الكريم لا يترجم والأجدر أن نقول: "ترجمة تقريبية لمعاني القرآن الكريم". وقد قالت الباحثة الفرنسية سيلفيت لارزول: "حيث أن القرآن يعتبر في الإسلام كلام الله، فهو غير قابل للتقليد، ولا يمكن ترجمته نظريًا ". وقد عنونت دراستها عن أوائل الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم ب: "ترجمة ما لا يُترجم".([5]). وقد قال الباحث الإسباني "أوسكار دي لا كروث بالما": "لم يكن هناك وعي بالمشكل الذي يعني ترجمة القرآن. فهو موحىً به باللعة العربية. وهو غير قابل للترجمة. أسلوب القرآن نفسه غير قابل للمحاكاة، إنه دليل على فعل الوحي. وأي ترجمة إلى لغة أخرى تعتبر شرحًا وليست النص الأصلي للوحي" ([6]).
على أنِّي أتبنى رأي طه حسين القائل بنقل معنى الكلمة بكل دقة، ولو استدعى ذلك تخصيص بضعة أسطر لذلك، سواء كنا نترجم من العربية أم إليها. وأرى أن يهتم الناس بترجمة تفاسير القرآن حتى يقتربوا أكثر من معنى القرآن الكريم(7).
[1]الكاتب غير مختص في اللغة أو في الترجمة ولا في تفسير القرآن الكريم، وإنما يكتب برأيه.
[2] راجع هذه المقالة وصححها مشكورًا الدكتور خالد خالد.
[3]ابن منظور، لسن العرب، دار صادر بيروت، ط7، 2011، ص 170
([6]) أوسكار دي لا كروث بالما، أهمية الترجمة اللاتينية الأولى للقرآن (روبيرت كتون 1142-1143)،الجامعة المستقلة برشلونة إسبانيا، ترجمة عبد العزيز شهبر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي. تطوان، يناير 2010
([7]) للدكتور محمد حمادي الفقير التمسماني مقالة رائعة بعنوان: "هل يمكن ترجمة القرآن الكريم" في بحث "تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قِبل المستشرقين ودوافعها وخطرها". http://www.madinacenter.com/post.php?DataID=54&RPID=52&LID=5