{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (سورة الصف:، الآية 4)

ترى، ماذا بقي لنا كي نصل إلى هذه المرحلة، مرحلة البنيان المرصوص؟

بقي الكثير، الكثير. بقي علينا أن نتعلم كيف نقف بإحسان في صفوف الصلاة. وأعني بذلك أن نحرص ذاتيا على ذلك دون أن يتطوع بعضنا بالتذكير أنّ "إقامة الصف من حسن الصلاة"، ودون أن يكبّر الإمام، فينشغل أصحاب الصف بدعوة/استجداء من خلفهم كي يكلموا صفهم المليء بالثقوب، ودون أن يضطر أحد إلى جذب من هو بجانبه كي يعتدل الصف. على التصاف أن يغدو فعلا طوعيا، وهَمًّا ذاتيا، وعادةً نشعر بالانزعاج والغربة بل والإهانة دونها.

 

وفي صلب هذا، الوقوف في الطابور الذي هو صف طولي بشكل أو بآخر. في هذه الأيام، وحين خروجنا من صلاة القيام، يتم  الخروج يتم في طابورين اثنين، وهذا أمر حدده حجم الباب. وهي عملية بطيئة نسبيا لأن الأحذية غير مرتبة (وهذه قضية أخرى آمل أن لا تُفتح شهيتي للحديث عنها!). وعلى يمين هذين الطابورين، ينتأ طابور ثالث يحاول –وتنجح رباته دائما- في الاندساس والخروج قبل الأخريات. هو مشهد شبيه بالسيارات التي تحاول الاندساس عند الالتفافات العكسية (يوتيرن) متخطية الدور. وثقافة الاندساس في الطابور تعني أننا على استعداد أن نضيع قيمة العدالة، وقيمة الاحترام؛ احترام الأسبقية والوقت.

في زيارة لي لمتحف "ڤيكتوريا أند ألبرت" في بريطانيا -وهو من أكبر المتاحف هنالك- كان الزحام شديدا نظرا لأهمية المتحف، ولأن الدخول مجاني، ولأن زيارتي كانت في موسم ازدحام. وحين دخولي لدروة المياه -أجلكم الله- وجدت النساء واقفات في صف واحد طويل يصل إلى مدخل الحمام الرئيس. وكلما خرجت واحدة، تقدمت من عليها الدور. بدا المشهد غريبا وسرياليا، خاصة أن ضمن الزائرات سائحات من دول شتى، لكنهن انصعن للجو العام. ورأيت هذا المشهد أيضا في حمام أحد متاجر التسوق الكبرى في أحد أيام نهاية الأسبوع.

فلنقارن هذا بحال حمام أي مجمع تجاري شهير لدينا في ذروة زحام نهاية الأسبوع. سنجد مشهدا طريفا. فثمة مجموعة ترابط عند كل باب بشكل شبه دائري، وحين تحين لحظة الدخول إما أن يكون الأمر بالتقام الفرصة بغض النظر عن أسبقية الوصول، أو بدعوة كل واحدة للأخرى وهو أمر ظاهره الشهامة وباطنه السخافة.

في مُصلى "الأڤنيوز" الواقع في الدور الأرضي قرب "پينكبيري" كانت لنا أيام! في عطلة نهاية الأسبوع، وفي صلاة المغرب تحديدا (نظرا لقصر وقتها)، نجد مثالا على حاجتنا المفجعة لتعلم ثقافة التصاف. دخول عشوائي، تخطٍ لرقاب المصليات، أحذية مهروسة قرب المدخل. ما ضرّ لو وقفت كل من لا تجد لها مكانا في طابور قرب الباب؟ وكلما خرجت واحدة، دخلت أختها. أظن أن الأمر ممكن، لو التزمت كل مصلية بوضع سُترة أمامها، ولو تم تنظيم الأمر بحجز مسافة على يمين المصليات أو يسارهن لتسهيل الخروج والدخول. هناك موظفة تجلس قرب المصلى (أظنها ضابطة أمن أو مسؤولة نظافة، لا أدري)، تجلس عاجزة تتفرّج على الفوضى.

لكن هل إذا طبقت إدارة المجمع هذه الفكرة التنظيمية ستنجح؟ أستصعب ذلك، أستبعد ذلك. لماذا؟ لأننا لا نُشّئنا في ثقافة لا تؤمن بالفرصة المتساوية والعدالة، بل بأخذ الحق باليد والذراع،  ثقافة لا تؤمن بالانتظار بل بالانتصار؛ الانتصار بالإجبار، والأهم من هذا كله، لا تؤمن بأن التصاف نوع من الإنصاف.  

يأمرنا تعالى أن نقاتل صفا, لكن واقع الحال أن وقفنا في صف قتال بحد ذاته؛ قتال للقيم والثقافة والقناعات والمألوفات. فسدد اللهم رمينا!

 

كاتبة ورئيسة تحرير دار ناشري للنشر الإلكتروني
كاتبة كويتية. حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الإنكليزية من جامعة الكويت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعلى درجة الماجستير في علوم المكتبات والمعلومات من جامعة الكويت. صدر لها 15 كتابا مطبوعا: أربع روايات، ومجموعتان قصصيتان، وكتاب في اللغة وآخر في شؤون المرأة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية