ياقوت الحموي يترجم للرازي:
"هو محمد بن عمر بن الحسين فخر الدين، أبو عبد الله الرازي، الفقيه الحكيم الأديب المتكلم المفسر العلامة، فريد دهره ونسيج وحده، فخر الدين أبو عبد الله القرشي التيمي البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، ابن خطيب الري الشافعي الأشعري:
علامة العلماء والبحر الذي ... لا ينتهي ولكل بحر ساحل
ما دار في الحنك اللسان وقلبت ... قلما بأحسن من ثناه أنامل "
ولد فخر الدين الرازي سنة أربع وأربعين وخمسمئة للهجرة، وتتلمذ على والده الإمام ضياء الدين، وكان من تلامذة محيي السنة أبي محمد البغوي، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمئة تلميذ، فقهاء وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه. [1]
ويذكر ياقوت الحموي أن الرازي كان شديد الحرص جداً في العلوم الشرعية والحكمية، اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره،وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام وصحّة الذهن والاطلاع الذي ما عليه مزيد، والحافظة المستوعبة والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلّة والبراهين، وكان فيه قوّة جدليّة ونظر دقيق، وكان عارفاً بالأدب، له شعر بالعربي ليس في الطبقة العليا ولا السفلى، وشعر بالفارسي لعلّه يكون فيه مجيداً، وله تصانيف، ورزق الإمام فخر الدين السعادة العظمي في تصانيفه، وانتشرت في الآفاق، وأقبل الناس على الاشتغال بها ورفضوا كتب الأقدمين، وكان في الوعظ باللسانين مرتبة عليا وكان يلحقه الوجد حال وعظه، ويحضر مجلسه أرباب المقالات والمذاهب ويسألونه، ورجع بسببه خلق كثير من الكرامية وغيرهم إلى مذهب السنّة، وكان يلقّب بهراة شيخ الإسلام. يقال انه حفظ «الشامل في أصول الدين» لإمام الحرمين، وكان ربع القامة، كبير اللحية في صورته فخامة، كانوا يقصدونه من أطراف البلاد على اختلاف مقاصدهم في العلوم وتفنّنهم، فكان كلّ منهم يجد عنده النهاية فيما يرومه من،. قرأ الحكمة على المجد الجيلي، والجيلي من كبار الحكماء، وقرأ بعد والده على الكمال السمناني، وقيل على الطبسي صاحب «الحائز في علم الروحاني» والله أعلم. [2]
وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتى فيها بما لم يسبق إليه لأنه يذكر المسألة ويفتح باب تقسيمها، وقسمة فروع ذلك التقسيم ويستدلّ بأدلّة السبر والتقسيم، فلا يشذّ منه عن تلك المسألة فرع لها به علاقة، فانضبطت له القواعد وانحصرت معه المسائل، وكان ينال من الكرامية وينالون منه، وقد قصد الرازي خوارزم وقد تمهّر فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى علم الكلام فأخرج من البلد، وقصد ما وراء النهر فجرى له أيضا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الريّ وكان بها طبيب حاذق له ثروة وله بنتان فزوّجهما بابني فخر الدين، ومات الطبيب فورث جميع نعمته ومن ثم كانت له النعمة، ولما وصل السلطان شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، بالغ في إكرامه، وحصلت له أموال عظيمة منه، وعاد إلى خراسان واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، وحظي عنده، وأظنّه توجّه رسولًا منه إلى الهند. [3]
علم الرازي:
يبين الحافظ ابن كثير المدى الذي وصل إليه علم الرازي، فيقول: "جالت أقلام فخر الدين -رحمه الله- في فنون كثيرة من العلوم، واتسعت دائرته، وتسلطن في فن الكلام خاصة، حتى قيل: إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في ذلك، وله اختيارات كثيرة في كتب متعددة يرد بعضها بعضًا، ولكن الذي صنفه على طريقة أهل الكلام نهاية العقول، وهو من أجود كتبه، وكذا كتاب الأربعين، وأما المباحث الشرقية فأكثرها على طريق الحكمة، ومذهب الفلاسفة، وكتابه المطالب العالية أجمع في ذلك كله، وهي آخر ما صنف في ذلك، وبهذا لم يتمها، وبقي عليه منها بقية، ثم قيل: إنه ندم على دخوله في هذا الفن كما قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله: أخبرني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع الفخر الرازي يقول: ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى، ومن شعره وكلامه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فبادوا والجبال جبال " [4]
بماذا أوصى الفخر الرازي؟
ولما توفي الإمام فخر الدين بهراة في دار السلطنة، يوم عيد الفطر، سنة ست وستمئة، كان قد أملى رسالة على تلميذه ومصاحبه: إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصبهاني، تدلّ على حسن عقيدته وظنّه بكرم الله تعالى ومقصده بتصانيفه، والرسالة مشهورة. [5]
وهذه وصيته:
" أوصى بهذه الوصية لما احتضر، لتلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني: يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو أول عهده بالآخرة، وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق: أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحامد التي يستحقها، عرفتها أو لم أعرفها؛ لأنه لا مناسبة للتراب مع رب الأرباب، وصلاته على الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، ثم اعلموا إخواني في الدين وأخلائي في طلب اليقين، أن الناس يقولون: إن الإنسان إذا مات انقطع عمله، وتعلقه عن الخلق، وهذا مخصص من وجهين: الأول: [أنه] بقى منه عمل صالح صار ذلك سببًا للدعاء، والدعاء له عند الله أثر، الثاني: ما يتعلق بالأولاد، وأداء الجنايات، أما الأول: فاعلموا أنني كنت رجلًا محبًا للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئًا؛ لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًا أو باطلًا، إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات، موصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيت فيها فائدةً تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة، من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مد به قلمي، أو خطر ببالي فأستشهد وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير اعتقدت أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة، فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا ينقص ملكه بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهم يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: " أنا عند ظن عبدي بي"، وأنت قلت: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } فهب أني ما جئت بشيء، فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي، واجعلني آمنًا من عذابك قبل الموت، وبعد الموت، وعند الموت، وسهّل علي سكرات الموت فإنك أرحم الراحمين. وأما الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ؛ فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله. الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والاعتماد فيه على الله، ثم إنه سرد وصيته في ذلك، إلى أن قال: وأمرت تلامذتي، ومن لي عليه حق إذا أنا مت، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني على شرط الشرع، فإذا دفنوني قرأوا علي ما قدروا عليه من القرآن، ثم يقولون: يا كريم، جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه.
سمعت وصيته كلها من الكمال عمر بن إلياس بن يونس المراغي، قال: أخبرنا التقي يوسف بن أبي بكر النسائي بمصر، قال: أخبرنا الكمال محمود بن عمر الرازي، قال: سمعت الإمام فخر الدين يوصي تلميذه إبراهيم بن أبي بكر، فذكرها، قلت: توفي يوم عيد الفطر بهراة". [6]
ثم يقول الرازي: لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلًا، ولا تشفي عليلًا، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن، اقرأ في التنزيل {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] واقرأ في الآيات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ، واقرأ أن الكل من الله، قوله تعالى {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، ثم يقول: وأقول من صميم القلب، من داخل الروح أني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه. [7]
خاتمة:
هذا هو الفخر الرازي، أحد أبرز العلماء المسلمين في مجال التفسير وعلم الكلام، يختم حياته بهذه الوصية التي حفظت بوصفها وثيقة تاريخية في كتب التراجم للعلماء الذين عنوا بترجمته وسيرته، يختم الفخر الرازي حياته بأمنية وحسرة وألم أنه كان يتمنى -وهو يودع هذه، الحياة- أنه لو قضى العمر فقط مع كتاب الله سبحانه وتعالى .
[1] شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (المتوفى: 626هـ): " معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب"، المحقق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1993 م، 6/ 2585.
[2] ياقوت الحموي: " معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب"، 6/ 2585 - 2886.
[3] ياقوت الحموي: " معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب"، 6/ 2586 - 2887.
[4] أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ): " طبقات الشافعيين"، تحقيق: د أحمد عمر هاشم، د محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، تاريخ النشر: 1413 هـ - 1993 م، ص 780.
[5] ياقوت الحموي: " معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب"، 6/ 2587 - 2888.
[6] شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ): " تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام"، المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003 م، 13/144- 445.
[7] ابن كثير: " طبقات الشافعيين"،780 - 781. وانظر الوصية عند: أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى: 668هـ): " عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، المحقق: الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة - بيروت، ص 466 – 668