سبق وأن تكلمنا عن التعليم وأهميته وأثره في بناء الفرد والمجتمع ، كما قلنا إن الإسلام قد رفع من شأن العقل الإنساني ، وحث الإنسان على استخدامه والنظر في الكون وعمارة الأرض ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[2].
وقال جل شأنه : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [3].
وقد اهتم الإسلام بالإنسان ، وحرص على تنمية مهاراته في مختلف المجالات ، ودعم روح الإبداع لديه ، كما عمل على تسخير كل السبل المتاحة لتوجيه ملكة الإبداع لديه واستثمارها ، وتوظيف مواهب الإنسان توظيفاً لائقاً بالكرامة الإنسانية ، ليقوم كل فرد في المجتمع بالإبداع في مجاله ، في تخصصه ، في مكانه الذي يعمل فيه ، وذلك من خلال ما يلي :
الدعوة إلى التفكير والتدبر:
فقد حث الإسلام أتباعه على إعمال عقولهم ، لأن في ذلك منفعة للأمة وزيادة في تقدمها وتطورها وارتقاءها في العلوم والمعارف ، لأن العقول المعطلة تبقى ميتة لا نفع فيها ، كما امتدح القرآن العظيم عباد الله المتفكرين ، وذكرهم الله تعالى في آيات كثيرة ؛ قال تعالى : (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[4].
كما حرص الإسلام كذلك على حرية عقل المسلم وفكره بعيداً عن أية قيود تحد من انطلاقه وتمنعه من التفكير والتأمل والتدبر في ملكوت السماوات والأرض ليتعرف على آيات الله فيها فتزيده إيماناً بالله ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)[5].
ومن ثم فقد نعى الإسلام على أولئك الذين يتقيدون في التفكير بحدود ما وصل إليه أسلافهم ، قال تعالى : (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[6].
إرساء مبادئ الحرية:
لقد أشرق فجر الإسلام بالحرية ، وأعلن منذ لحظة بزوغه الرفض التام للعبودية بكافة أشكالها وصورها ، ابتداءً من الأوثان البشرية والحجرية ، وانتهاءً بالتعلقات الخفية كعشق المال والنساء.. الخ ، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمِ ، وَالْقَطِيفَةِ ، وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ)[7].
تلك الحرية ساهمت في تكوين البيئة الخصبة للإبداع ، ذلك أن العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة متكاملة ومرتبطة بعضها البعض ، فلا إبداع بدون حرية.
دعم استقلال الشخصية:
لقد حرص الإسلام على أن تكون شخصية المسلم حرة ، مستقلة ، متميزة عن غيرها ، ومنحها من الثقة ودعمها لاستخراج مكنوناتها النفسية ، ليصل بها إلى مرحلة الإبداع ، دون غرور أو مغالاة أو إسراف.
قال تعالى : (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)[8].
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن انخفاض شعور الفرد بأهميته ، وأهمية الأعمال التي يقوم بأدائها تعد من معوقات الإبداع التي تطفئ لهيبه في نفوس المبدعين.
ولعل في مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم ما يوضح ذلك ، فقد روي عن حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا)[9].
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقفون إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم في التخطيط والإعداد ، ويدلون بآرائهم في المواقف كلها ، وبين ظهرانيهم نبي ورسول وقائد ينزل عليه وحي السماء فتفتقت أذهانهم عن الكثير من الإبداع.
فهذا هو الحباب بن المنذر رضي الله عنه يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل ، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي ، وهذا هو سلمان الفارسي رضي الله عنه يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، ويتقبل الرسول صلى الله عليه وسلم مشورته ، ومن هذا الباب موافقات عمر رضي الله عنه.. وغير ذلك كثير.
إنماء روح التعاون وفعل الخير:
لقد ربط الإسلام الفعل الإنساني الطيب بالخيرية لتحصيل الثواب ، وتحقيق الفلاح ، وليس أفضل ولا أطيب من إبداع يُنتَفَعُ به ، ويستفيد منه القاصي والداني ، قال تعالى : (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[10].
وروي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (.. إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)[11].
وروي عن الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ..)[12].
في هذا الحديث تشجيع على الإبداع في الأفعال الحسنة ، والأفكار الجادة ، والأعمال الهادفة ، والخدمات المفيدة ، التي من الممكن أن تقدم للإنسان والمجتمع الأمة ما يُنتَفَعُ به ، فكل إبداع ينفع الناس وكل تقنية تؤدي لازدهار الحياة يشجع الإسلام عليها ويرغب فيها ، لتمتلئ الحياة بالخير، ولا يتوقف قطار الإبداع.
ولعل من الأهمية بمكان أن ننبه على أن القاعدة في قبول الإبداع هو ألا يخالف قواعد الشريعة الإسلامية ، إذ لا خير في إبداع لا فائدة منه ، أو فيه مضرَّة للإنسان ، أو مفسدة للحياة ، ونشر للفاحشة ، ذلك أن المسلم ينأى بنفسه عن كل ما يخالف مبادئ دينه وشريعته.
[1] - المقالة من كتاب (تركة المصطفى ﷺ وشريعة الإسلام) جـ3 لمؤلفه/ أحمد درويش عبد السيد.
[2] - سورة الإسراء : 70.
[3] - سورة هود الآية : 61.
[4] - سورة يونس الآية : 24.
[5] - سورة الروم الآية : 8.
[6] - سورة المائدة الآية : 104.
[7] - رواه البخاري.
[8] - سورة المائدة الآية : 77.
[9] - رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[10] - سورة الحج الآية : 77.
[11] - رواه الترمذي.
[12] - رواه مسلم.