قال تعالى في سورة الحديد الآية 7:

{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[1].

وقال سبحانه في سورة فاطر الآية 15 :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[2].

كان الناس في الأمم السابقة ينقسمون إلى طبقتين هما : طبقة الأغنياء ، وطبقة الفقراء.

وكانت مصر في عهدها القديم جنة الله في الأرض ، وكانت تنبت من الخيرات ما يكفي أضعاف أهلها عدداً ، ولكن الطبقة الفقيرة فيها كانت لا تجد ما تأكله ، لأن الطبقة الموسرة كانت لا تترك لهم شيئاً غير حثالة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فلما أصابتها المجاعة على عهد الأسرة الثانية عشرة ، باع الفقراء أنفسهم للأغنياء ، فساموهم الخسف ، وأذاقوهم عذاب الهون[3].

 

وفي مملكة "بابل" كان الأمر على ما كان عليه في مصر لا حظَّ للفقراء من ثمرات بلادهم ، مع أنها كانت تسامي بلاد الفراعنة نماء وخصوبة ، وكانت تجري مجراها فارس .

أما لدى الأغارقة (اليونان) الأقدمين فكان الأمر لا يعدو ما تقدم ، بل تروى عن بعض ممالكهم أمور تقشعر من هولها الجلود ، فقد كانوا يسوقون الفقراء بالسياط إلى أقذر الأعمال ، ويذبحونهم لأقل الهفوات ذبح الأغنام .

أما في إسبرطة من ممالكهم فكان الموسرون لا يتركون للمعسرين إلا الأرض التي لا تصلح للإنبات فذاقوا ألوان الفاقة غير مرحومين ، وكان الأغنياء في أثينا يتحكمون في الفقراء إلى حد أنهم كانوا يبيعونهم بيع العبدان إذا لم يؤدوا لهم ما كانوا يفرضونه عليهم من الإتاوات .

ولما زالت الدولة الرومانية ، وقامت على أنقاضها الممالك الأوروبية ازدادت حالة الفقراء سوءاً ، فكانوا في جميع أصقاعها يباعون كالماشية مع أراضيهم .

** وقد دعت الشرائع السماوية إلى الاهتمام بالفقراء ، إلا أن تلك الدعوة لم تتجاوز التشجيع على العطف والإحسان إليهم[4] ، ولكن دون إيجاب أو إلزام أو سلطان لأحد عليهم في جمع الأموال وتوزيعها على الفقراء ، ومن ثم لم تحقق هذه الدعوة علاجاً لمشاكل الفقراء ، وإنما في أحسن الأحوال لم تتعد كونها وسيلة للتخفيف عنهم ، ويحدثنا القرآن الكريم في مناسبات عديدة عن ذلك ، فقال تعالى في سورة البقرة الآية 83 :

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}[5] .

وفي سورة المائدة الآية 12 :

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[6] .

وفي سورة مريم الآية 31 :

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [7] .

وفي سورة مريم الآيتان 54 ، 55 :

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[8] .

وفي سورة الأنبياء الآية 73 :

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[9] .

وفي سورة البينة الآية 5 :

{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[10] .

وكان للشريعة الإسلامية كعادتها فضل السبق في إقامة بنيان العدالة ، والتكافل الاجتماعي ، والاعتناء بالفقراء وذوي الحاجة ، ورعايتهم ووضع الحلول العملية لعلاج مشكلة الفقر ، فقد اهتم الإسلام منذ بزوغ فجره بالفقراء ، وحرص القرآن الكريم على الأمر برعايتهم والاهتمام بهم .

وقد نبه القرآن الكريم عباد الله المؤمنين أنهم جميعاً فقراء إلى الله ، وأن ما عندهم من مال هو نعمة من الله أنعم بها عليهم ، وأن من أنعم له أن يمنع ، وأن نعمة المال التي أنعم الله تعالى بها على عباده هي اختبار لهم لينظر كيف يعملون ، وأنه تعالى سيحاسبهم عليها لأنه تعالى لم يرزقهم المال لينفقوه حسبما شاءوا ، وإنما لينفقوه كما أمرهم من رزقهم ، فهم مستخلفون في ذلك المال ، والمستخلف إنما يأتمر بأمر من استخلفه وإلا عزله وحرمه ومنعه .

قال تعالى في سورة فاطر الآية 15 :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}

وقال سبحانه في سورة الحديد الآية 7 :

{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}

وقد قص علينا القرآن قصة أصحاب الجنة في سورة القلم الآيات من 17 : 33 فقال تعالى :

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[11] .

تتحدّث قصة أصحاب الجنة عن رجل آتاه الله جنة عظيمة فيها من الثمرات والخيرات والأنهار ما الله به عليم ، وكان هذا الرجل صالحاً يبادر إلى مساعدة الفقراء وإطعامهم من مما ينبت في هذه الجنة ، وكان هذا سبباً في أن يبارك فيها ، ويزيد في رزق صاحبها ، وكان لهذا الرجل الصالح أولاد يأخذهم معه إلى هذه الجنة ، ويريهم كيف أن الله -عزّ وجل- كتب لهذه الجنة البركة لما يبذله في سبيل الله منها .

ومرّت الأيام وكبر هذا الرجل الصالح وشبَّ أولاده ، حتى جاء اليوم الذي رقد فيه هذا الرجل الصالح على فراش الموت وتوفاه الله تعالى ، وهنا بدأ أصحاب الجنة في تحديد مصيرها من بعد والدهم ، فقرر أبناء الرجل الصالح أن لا يعطوا الفقراء منها شيئًا ، فهي قادرة على أن تجلب لهم المال الكثير لما فيها من ثمرات وخيرات متنوعة ، وأن ما كان عليه والدهم تسبب في طمع الفقراء في خيراتها وثمارها ، بينَما كان موقف الابن الأوسط منهم مُغايراً لموقف إخوته ، إذ أشار عليهم بأن يظلوا على ما كان عليه والدهم من إطعام للفقراء والمساكين حتى تستمر البركة التي وضعها الله في هذه الجنة ، لكن موقف الأغلبية كان أقوى من موقف الابن الأوسط فحسموا أمرهم بعد إعطاء الفقراء أي شيء منها .

وهنا جاء الأمر الإلهي بأن تصبحَ هذه الجنة الخضراء قاحلة بأمر الله تعالى ، وكان ذلك أثناء نوم الأبناء الذي عزموا على الذهاب في صبيحة اليوم التالي إلى الجنة لقطف جميع ثمارها وتوزيع خيراتها حُصَصًا بينهم دون الالتفات إلى الفقراء ، وعندما استيقظوا ساروا في الطريق إلى الجنة متخافتين كي لا يسمع الفقراء صوتهم ، وبذلك لا يعلمون عن وصولهم باكراً إلى الجنة من أجل قطف ثمارها ، وعندما وصل أصحاب الجنة إليها ذُهلوا من المشهد ، فقد كانت الجنة خاوية على عروشها ، وكل ما فيها من خيرات قد ذهب تماماً .

وهنا عاد أصحاب الجنة إلى أنفسهم وأدركوا أن ما آلت إليه الجنة كان سببه ما عزموا على فعله من حرمان الفقراء من ثمرات هذه الجنة ، وعلموا أنهم قد ظلموا أنفسهم بفعلتهم هذه ، وهنا ظهر الابن الأوسط ليذكرهم بما قال لهم قبل تحول الجنة إلى خراب ، وأن ما كان عليه والدهم قبل موته كان سبباً في زيادة الرزق ، وأن تكون الجنة بالحال التي كانت عليه ، وأنه قام بنصحكم لكنهم لم يستجيبوا لنصيحته ، فاستغفروا الله -سبحانه وتعالى- وعادوا إليه كي يسامحهم على ما اقترفوا من ذنب .

وهذه القصة وغيرها الغرض منها التأكيد على أن المال هو مال الله وأننا مستخلفين فيه فإن لم نحسن التصرف فيه كما أمرنا الله كان العقاب إما بسلب تلك النعمة في الدنيا أو العذاب عليها في الآخرة ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

والإسلام وهو في سبيله لحل مشكلة الفقر والفقراء لم يقترح حلولاً مؤقتة تخفف عنهم وقتاً ثم تتركهم فريسة للألم أوقاتاً طويلة ، وهي بذلك تعمل عمل المسكن الذي بانتهاء مفعوله يعود الألم للمريض .

لقد تعامل الإسلام مع الفقر على أنه كالداء الخبيث الذي لو تمكن من الجسد[12] لفتك به وأودى بحياته ، كما تعامل مع الفقير على أنه عضو من أعضاء ذلك الجسد الذي يجب صيانته ، ووقايته ، ورعايته ، وعلاجه مما يمكن أن يصيبه ، لأن في سلامته معافاة الجسد وقوته ، وفي ضعفه ضعف الجسد وربما هلاكه ، ومن ثم فقد عمل الإسلام على إيجاد حلول جذرية للقضاء على الفقر ، وحل مشاكل الفقراء ، فوضع الخطوات التي تقود إلى حل المشكلة دون استحداث لمشاكل أخرى قد يعاني منها المجتمع ، وذلك كالآتي :

أولاً : معاملة الفقراء بالحسنى .

ثانياً : الترغيب في الصدقة والحث عليها .

ثالثاً : التحذير من البخل والوعيد عليه .

رابعاً : فرض الزكاة وتحديد نصابها وحصر مستحقيها .

خامساً : إيجاد مصادر للتمويل وهي : الصدقة ، والزكاة ، والكفارات المالية ، وبيت مال المسلمين .

وبمشيئة الله تعالى نكمل حديثنا في المقالة القادمة.

 


[1] - سورة الحديد الآية : 7 .

[2] - سورة فاطر الآية : 15 .

[3] - كتاب "الإسلام دين عام خالد" للمرحوم الأستاذ/ محمد فريد وجدي .

[4] - كتاب فقه الزكاة لفضيلة الدكتور/ يوسف القرضاوي .

[5] - سورة البقرة الآية : 83 .

[6] - سورة المائدة الآية : 12 .

[7] - سورة مريم الآية : 31 .

[8] - سورة مريم الآيتان : 54 ، 55 .

[9] - سورة الأنبياء الآية : 73 .

[10] - سورة البينة الآية : 5 .

[11] - سورة القلم الآيات من 17 : 33 .

[12] - المجتمع.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية