تكرار الموبقات:
كثيراً ما نسمع عن إنسان ما ابتلي بالمعاصي والموبقات لكنه لا يستطيع دفعها؟ وهناك الكثير من الأسئلة التي ترد إلى المفتين والعلماء لشباب يقترفون المحرمات ويكررون الموبقات، ويقولون: إنهم لا يستطيعون التوقف عن ذلك.
فهذا شاب مثلاً يذكر للمفتي أنه يتوب ثم يعاود ارتكاب المعاصي؟ فيقول: "أنا شاب في التاسعة عشرة من عمري، وقد أسرفت على نفسي في المعاصي كثيرا، حتى أنني لا أصلي في المسجد ولم أصم رمضان كاملا في حياتي، وأعمل أعمالا قبيحة أخرى، وكثيرا ما عاهدت نفسي على التوبة، ولكني أعود للمعصية، وأنا أصاحب شبابا في حارتنا ليسوا مستقيمين تماما، كما أن أصدقاء إخواني كثيرا ما يأتوننا في البيت وهم أيضا ليسوا صالحين، ويعلم الله أنني أسرفت على نفسي كثيرا في المعاصي وعملت أعمالا شنيعة، ولكنني كلما عزمت على التوبة أعود مرة ثانية كما كنت. أرجو أن تدلوني على طريق يقربني إلى ربي ويبعدني عن هذه الأعمال السيئة".
فيذكر له الشيخ المفتي أن دخول الجنة مرتبط بالتوبة النصوح، أي ترك الذنوب والحذر منها، والندم على ما كان منها، والعزيمة الصادقة على ألا يعود إليها من أجل تعظيم الله سبحانه والرغبة في ثوابه والحذر من عقابه (ينظر: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ): "مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله"، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر).
وما يكابده هذا الشاب نسمع عنه كثيراً، ونقرأ عنه في أجوبة العلماء والمفتين على أسئلة ترد إليهم.
فهذا شاب آخر يشرح للشيخ المفتي الحال التي يكابدها ويعاني منها، فيقول: "أرجو من المشايخ الكرام ألا يستثقلوا طول أسئلتي.... إنني شاب تاب منذ أقل من سنتين وأحسست في سنتي الأولى بالفتوح المتواصلة حيث كنت أتدرج شيئا فشيئا في طريق الالتزام ... رغم الفتن.. حتى أحسست بالقرب من الله الذي أحاطني سبحانه ببيئة طيبة ... ثم إذا بي أقع في أوحال من المعاصي القلبية من عجب ورياء ونفاق.... رافقه ابتلاء... وجدت نفسي معه منهارا.. بلا يقين ولا خشية ... بل بقنوط ... إلى درجات يندى لها الجبين ... وبلغ بي الحال إلى أنني أردت ترك الصلاة بالكلية إلا أن أحدهم أخبرني ما أنا فيه الآن نكسة قد أعاقب عليها ولكن عقاب الردة أشد فواصلت الصلاة وأنا موقن أن ذلك يخالطه الرياء ... حتى إنني إذا أردت أن أعصي علنا تذكرت رؤية الناس لي فتركت المعصية ... فلطالما راودتني نفسي على إسبال الإزار وعلى مصادقة زميلات الكلية..... وردني عن ذلك رؤية رفاقي لي.... ومع العودة إلى الدراسة هذه السنة وجدتني وقد أطلقت بصري فيما حرم علي ربي خاصة عندما لا يكون زملائي معي ... والله أنني غارق في بحر من الشهوات كلما أردت أن أخرج منه زدت غوصا فيه لأنني لست صادقا مع ربي ... الآن هجرت الدعوة والقيام لم أعد اقرأ القرآن إلا في المسجد ... حتى أنني أصبحت أتعلمه عند شيخ وأحس بأنني أخشى الخطأ أمامه أكثر من أن أخشى الخطأ وأنا أقرأ دون جهر أجوده أمامه وأقرؤه بجفاف وأنا أقرأ سراً... والله لقد تدنست نفسي ... والله أنني أصبحت مصيبة من مصائب الأمة المحمدية ... إنني الآن أحس بإرهاق وضغط نفسي كبير، وما زاد من إرهاقي هو إصابتي بسلس المذي فهل له من دواء، فأفيدوني بارك الله فيكم؟".
فيجيبه المفتي قائلاً: " فالذي ننصحك به هو أن تتقي الله تعالى وتتوب إليه من جميع الذنوب توبة صادقة وألا تعود إلى تلك المعاصي وألا تقنط من رحمة الله فإن القنوط من رحمة الله تعالى من كبائر الذنوب كما أن أمن مكر الله تعالى من كبائر الذنوب فعلى المسلم أن يكون خائفاً من الله تعالى طامعاً في عفوه ورحمته وسائر فضله وإحسانه، كما يجب عليك أن تلتزم بصلاتك فإن ترك الصلاة ليس بالأمر الهين إذ قد يؤدي للكفر والعياذ بالله تعالى، كما ننصحك بالتزام الطريقة التي كنت عليها من اجتناب المعاصي والمشاركة في الدعوة وقراءة القرآن وصحبة الصالحين وجاهد نفسك على تحصيل الإخلاص في عملك وألا تعمل العمل الصالح لأجل الناس ولا تتركه من أجلهم أيضاً أي خشية أن يكون رياء بل جاهد نفسك على الإخلاص، ومما يعينك على ذلك استشعار عظمة الله سبحانه، وأنه مطلع على ما يدور في صدرك وأنه الذي بيده أمرك كله سبحانه، وأن من يراك من الناس وأنت على العبادة لا يملك لك ضراً ولا نفعاً، فلماذا إذاً يصرف الإنسان أعماله وعبادته لطلب عبد مثله" (ينظر: فتاوى الشبكة الإسلامية، لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية، تم نسخه من الإنترنت: في 1 ذو الحجة 1430، هـ = 18 نوفمبر، 2009، http://www.islamweb.net).
إذاً نحن أمام معضلة حقيقية، مشكلة شاب يعرف أنه مخطئ، أنه لا يلتزم بالطريق الذي يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويرتكب المعاصي والمحرمات، وهو نادم على ذلك، ومع معرفته وندمه لكنه مستمر على اقتراف المعصية وارتكاب المحرمات بدون أن يجد وسيلة للكف عن ذلك.
الداء والدواء:
يحفل تراث الحكمة الإسلامية في تاريخ الإسلام بالكثير من الأجوبة على هذا السؤال المهم. فقد عالج العلماء مشكلة الذنوب واقتراف المحرمات وعدم الكف عنها والاستمرار فيها.
كان الشيخ العلامة الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله واحداً من هؤلاء العلماء الأفذاذ، وهو الخبير في الحكمة الإسلامية، فقد قدم جواباً رائعاً عن هذا السؤال الذي لا يزال يتكرر إلى اليوم: أعلم أني مخطئ، وأريد أن أتوب؟ وأتوب فعلاً لكني أعود إلى ارتكاب الذنب مرة تلو أخرى؟ فما الحل؟
من أول كتابه الموسوم: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أو "الداء والدواء" يعرض الشيخ ابن القيم رحمه الله للسؤال نفسه الذي يسأله شبابنا اليوم، " ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين - في رجل ابتلي ببلية وعلم أنها إن استمرت به أفسدت دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما يزداد إلا توقدا وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ فرحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى" (محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١هـ): "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء، الناشر: دار المعرفة – المغرب، الطبعة: الأولى، ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م، ص 7).
إذا هو السؤال نفسه الذي يسأل عن شباب اليوم، كان الناس يسألون عنه قبل أكثر من 7 قرون. السؤال نفسه بالضبط!
الداء هو الجهل، والدواء هو السؤال:
يبدأ الشيخ ابن القيم جوابه الكبير بالقول: "لكل داء دواء"!
ويستدل بالحديث النبوي ليؤيد ذلك، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله»، وفي لفظ: «إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو دواء، إلا داء واحدا، قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: الهرم» قال الترمذي: هذا حديث صحيح (ابن القيم: "الداء والدواء"، ص 7).
ويبين الشيخ ابن القيم أن هذا الأمر عام في أمراض القلب والروح والبدن وأدويتها، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهل داء، وجعل الدواء في سؤال العلماء.
فروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر - أو يعصب - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده".
فأخبر أن الجهل داء ومرض، وأن الشفاء منه في السؤال (ابن القيم: "الداء والدواء، ص 8).
إذا المشكلة الأولى، كما يشخصها الشيخ ابن القيم رحمه الله أنها تكمن في الجهل، الداء هو الجهل، والدواء الخاص بعلاجه يكمن في السؤال، لكن سؤال من؟ سؤال العلماء، أي أهل الخبرة والاختصاص.