قيمة الوفاء في تاريخ العلم في الإسلام:
يحفل تاريخنا العلمي في الإسلام بنماذج مشرفة من العلاقة الأبوية الحنونة بين الشيخ والتلميذ. ولا عجب في ذلك، ففي تاريخ العلم في الإسلام التعليم له مكانة مهمة ومتميزة جدا، فالعلم لله أولا وآخرا.. هذا يعني أن الأستاذ يعلم الطالب العلم النافع له في الدنيا والآخرة.. فقضية التعليم في الإسلام ليست قضية وضعية منطقية محضة، بل هي مرتبطة بالتوجيه الديني الأساس أن كل شيء من الله ولله سبحانه.
في تاريخنا العلمي الإسلامي نماذج مشرقة وجميلة للغاية من الوفاء بين الطالب والأستاذ، وبين الشيخ والتلميذ أيضا.. فلو تابعنا سير الصحابة رضوان الله عليهم لوجدنا كم كان الصحابة رضي الله عنهم أوفياء لمعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهذا الوفاء انعكس على علاقة التابعين بمشايخهم من الصحابة مثلا نافع تلميذ ابن عمر رضي الله عنهم، مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، علقمة بن قيس تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهكذا.
ولو انتقلنا إلى عصر الأئمة الكبار لوجدنا قصصا كثيرة من تاريخ العلم في الإسلام لوفاء التلميذ بأستاذه، من ذلك وفاء أبي حنيفة لشيخه حماد بن أبي سليمان، ووفاء أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني لشيخهم أبي حنيفة، ووفاء الإمام الشافعي لشيخه الإمام مالك، ووفاء الإمام أحمد بن حنبل لشيخه الإمام الشافعي..
ثم وفاء الإمام الغزالي بشيخه الجويني، ووفاء الإمام ابن قيم الجوزية لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية.. وغير ذلك الكثير جدا..
كان الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي رحمه الله واحدا من أولئك العلماء الأبرار الأوفياء لمشايخهم، فقد عرف عنه رحمه الله أنه كان شديد الوفاء لشيخه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
عن الشيخ محمد عبده والشيخ المراغي:
يقول الشيخ محمد رشيد رضا عن شيخه الإمام محمد عبده رحمهما الله:
"كان الشيخ محمد عبده سليم الفطرة، قدسي الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية، زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي، وأعدته لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسته شعلة من روح السيد جمال الدين فاشتعل نوراً على نور..." (ينظر: محمد رشيد رضا: " تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده"، دار المنار، مصر ، 1350ه، الجزء الأول/ ح.
يعد الشيخ محمد مصطفى المراغي من أشهر شيوخ الأزهر وأكثرهم استنارة في النصف الأول من القرن العشرين. ارتبط اسمه بعدد من المشاريع الإصلاحية المهمة، مثل مشروع إصلاح الأزهر، ومشروع قانون الأحوال الشخصية، وإحياء موضوع الاجتهاد.
ولد المراغي في مدينة المراغة بمصر عام 1881. التحق بجامعة الأزهر وحضر دروس الشيخ محمد عبده حتى نال الشهادة الدولية عام 1904. رئيس قضاة السودان. بعد عودته إلى مصر، تخرج في مناصب المحاكم الشرعية حتى وصل إلى منصب رئيس المحكمة الشرعية في مصر. تولى منصب شيخ الجامع الأزهري مرتين: عام 1928 وأقال منه بسبب مواقفه الإصلاحية وآرائه المثابرة التي أثارت عداء بعض الأزهريين، ثم عاد وتولاها مرة أخرى عام 1935 وبقي فيها حتى الله. وافته المنية في منتصف الأربعينيات (ينظر: فاطمة حافظ: “الشيخ مصطفى المراغي ومشروعه الإصلاحي”، موقع إسلام أون لاين، على الرابط الاتي: https://islamonline.net/مصطفى-المراغي-ومشروعه-الإصلاحي/?amp
الإمام المراغي: في رثاء شيخه الإمام محمد عبده
يستهل الإمام محمد مصطفى المراغي رثائه لشيخه الإمام محمد عبده ببيان أن الإمام محمد عبده عبد من عباد الله، خص به من بين الناس من فضله، فكان ممن أعطاهم صفات الإنسانية الفاضلة، مما ميزهم عن أقرانهم في زمانهم وأمثالهم في العصور الأخرى، وشرفوا على الناس، بعد أن عانوا معاناة التدهور العلمي والأخلاقي للناس ومحاولة استبدالهم بأمم أخرى؛ وهو رجل أُعطي لذة العلم، فاض عليه نور المعرفة الإلهية، ففهم أسرار الدين، وعرف السعادة الحقيقية. كان رحيم القلب للضعيف والفقير، منطلقا من منطلق حب العطاء والإحسان. (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين"، مجلة الرسالة/العدد 420/تاريخ 21-07-1941. متاح من خلال الرابط الاتي:
https://ar.m.wikisource.org/wiki/مجلة_الرسالة/العدد_420/الشيخ_محمد_عبده).
نشأ الشيخ محمد عبده، كما يبين الإمام المراغي، في عصر الانحطاط والتدهور، وكان كل شيء في هذا العصر مؤلمًا للروح الحرة وغريزة الصدق. فقد انحدرت الأمة الإسلامية علميًا وسياسيًا واجتماعيًا إلى أدنى المستويات، والباحث عن الحرية العقلية بينهم لا مخرج له، والدين يفهمه الناس بطريقة مختلفة، وقد اختلطت اللغة العربية مع لغات أخرى، والاقتراب من الله يتم بطرق لم يشرعها الله. ذبلت رياح المسلمين، وهربت مقاليد الحياة العامة من أيديهم، ووقعت عليهم الأمم كما ينهار الآكلون على قصعتهم، وهم ليسوا قليلين بين الأمم، لكنهم غثاء كغثاء السيل (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
ذهب الإمام محمد عبده ليتعلم، كما يذكر الشيخ المراغي، وتعلم كما يتعلم الآخرون: قواعد جافة وبلا حياة تربطها بمصادرها من الكتاب المقدس والسنة النقية، ولا بأصولها في اللغة والأساليب والأفكار، وأدب العرب. وتعلم القواعد في الاختصارات التي كانت كافية في ذلك العصر المظلم لا يمكن فهمه إلا من خلال التفسيرات والحواشي. كما أن الفقه لا يعلو على احتياجات المجتمع واحتياجات الحكومات والدول في التشريعات واللوائح. لا تؤدي دراسة الكلام والمنطق إلى التفكير الصحيح الذي يطمئن العقل ويقنع الخصم. والمتكلم في الاجتهاد واختيار الأحكام بحيث تتفق الأحكام مع حاجات العصر، وتناسب أحوال الأمم وشروط العصر، مبتدِع يخالف ما اتفق عليه المحققون (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
عاش الشيخ في هذه البيئة العلمية، بصدر ضيق وحياة مريرة. ومن كان عنده غرائز صحيحة وبصيرة آمن بالقرآن ويعتقد أن فيه هدى وشفاء، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الأمم ولكل الأعمار، وأنظمة لائقة.. عاش الشيخ محمد عبده، كما يذكر الشيخ المراغي، في هذه البيئة باحثًا عن وسيلة، للخروج منها، وتطلع إلى رجل يشفي صدره، ويزيل قلقه، ويقوي قوته، ويفهمه الدين والحياة، رجل يشاركه الرأي ويتضامن مع رأيه أن هذا ما يراه ليس دينًا؛ وهذا الذي يعيش فيه الناس ليس هو الحياة. وهذا الذي يدرسه من الكتب لا يقود إلى العلم الصحيح، بل يبعده عنها. هذا ما يعرفه الناس في طرق الدراسة، فهي ليست طرق الدراسة الصحيحة والمفيدة. مر بهذه المرحلة فأعطاه الله ما تطمح إليه روحه، فنزل إلى مصر جمال الدين الأفغاني، وهو رجل خبير في أحوال العالم وأحوال الأمم، مطلع على أدوار التاريخ ومراحل الدول الإسلامية، خبير في التاريخ العلمي الإسلامي وغيره من التواريخ، مطلع على مذاهب الأمم وحلها، وعلى دراية بالمنطق. وأساليبه الثاقبة في الدعوة إلى الله تعالى فاهما للمقاصد العامة للدين، ومحترما للعقل ومدركا قيمته، مع وضع الرجال في أماكنهم دون أن يعطهم أكثر مما يستحقون (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
كان للسيد جمال الدين الأفغاني الأثر البالغ في توجهات الإمام الشيخ محمد عبده كما يذكر الشيخ المراغي.. يضيف الشيخ المراغي: وجد الشيخ محمد عبده عند السيد جمال الدين رغبته، فوجد ما يشبع شهوته، ويشفي صدره، ويزيل صدأ عقله، ويشحذه، ويعيد ذلك الجوهر نقيًا ونقيًا ورائعًا كما خلقه الله، ثم يملأه بالمعرفة واليقين والإيمان والمعرفة وتهيئته للإصلاح. أكمل الشيخ دراسته، وغادر مصر لأسباب سياسية وقام بجولة في بعض الدول الإسلامية وبعض الدول الغربية، فأكتمل نضجه. ثم عاد وعمل في القضاء المدني، وتعلم الأساليب القضائية الحديثة من مصادرها، فأصبح قادراً على الإصلاح في القضاء الشرعي، كما أنه كلت قادر على الإصلاح العلمي وإصلاح نظم الدراسة. وقد أعدت له كل الأسباب لتولي فتاوى المجتمع المصري، وأصبح مهمًا في إصلاح الأزهر بعضوية الإدارة فيه، ومواهبه ومكانته وخبرته في الدولة ورجال الدولة. جعله هو المسيطر على الإصلاح في الأزهر وصاحب النفوذ فيه، كان الشيخ يعلم أن النفوذ والهيبة ووضع الأنظمة وما إلى ذلك لا تجعل العمال أو العلماء المبتكرين، وأن كل هذا يجب أن يضاف إلى التعليم الصحيح (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
يقول الشيخ المراغي عن شيخه الإمام محمد عبده: “ذهب الشيخ إلى جوار ربه منذ ست وثلاثين سنة... مات الشيخ وبقيت طريقته في الإصلاح لم تمت، وبقيت آراؤه مدونة في الكتب ومرسومة في صدور تلاميذه المخلصين يورثونها الأبناء والأحفاد. إن ذلك المصباح لا يزال يسطع نوره ولا يزل نوره يمتد في آفاق البلاد الإسلامية وغيرها وسيتجلى للناس جميعهم عندما ينصفه التاريخ ويتقادم العهد أنه علم من أعلام الأمة ومجدد من مجددي الإسلام؛ وأنه أحد رجال السلف الصالح. تأخر ميلاده عن خير القرون لحكمة أرادها الله، فولد في القرن الثالث [عشر] الهجري" (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
ومما يرويه الإمام المراغي عن شيخه:
"ترك بذور الإصلاح للتعليم الديني وتعليم علوم العربية وبذور إصلاح القضاء الشرعي، وبذور إصلاح المجتمع الإسلامي والأمم الإسلامية. وليس في رجال تفسير كتاب الله من يضارع الشيخ أو يقاربه في تطبيق آي القرآن على سنن الاجتماع، وفي تصوير هدى القرآن، وفي فهم أغراض الدين العامة ودعته ليلة سفري إلى السودان لتولي قضاء مديرية دنقلة في نوفمبر سنة 1904، فسألني: هل معك رفقاء السفر؟ فقلت: نعم، بعض كتب آنس إليها وأستديم بها اتصالي بالعلم؛ فقال: أو معك كتاب الأحياء؟ فقلت: نعم؛ قال: الحمد لله، هذا كتاب لا يجوز لمسلم أن يسافر سفراً طويلاً دون أن يكون رفيقه؛ ثم قال لي: أنصحك أن تكون للناس مرشداً أكثر من أن تكون قاضياً، وإذا استطعت أن تحسم النزاع بين الناس بصلح فلا تعدل عنه إلى الحكم، فإن الأحكام سلاح يقطع العلاقات بين الأسر، والصلح دواء تلتئم به النفوس وتداوي به الجراح”.. (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
ومما يرويه الشيخ المراغي عن شيخه الإمام محمد عبده: “وداعبني مرة إثر خروجي من امتحان شهادة العالمية هل تعرف تعريف العلم؟ فقلت له نعم وكنت أحفظ إذ ذاك أكثر تعاريف العلم فسردت بعضها. فقال اسمع مني تعريفاً مفيداً العلم هو ما ينفعك وينفع الناس. ثم سأل: هل انتفع الناس بعلمك؟ قلت له لا. قال: إذاً أنت لست بعالم. فانفع الناس بعلمك لتكون عالماً" (ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).
ويختم الإمام محمد مصطفى المراغي كلامه عن شيخه الإمام محمد عبده بالقول: “ولم يكن يفوته أن يذكر بالقرآن وأن يعتبر بالقرآن كلما ذكرت الحوادث وكلما جدت العبر، ولم يكن يفوته أن يشهر بالظالمين، وأن يثني على المخلصين العادلين. فقد كان يحب الحق أكثر مما يحب نفسه. عاش للعلم وعاش للدين وعاش للإسلام والمسلمين، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى إخوانه الأئمة المهتدين”.. ينظر: الأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي: "الشيخ محمد عبده بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين).