الاجتهاد بالرأي من الموضوعات الأصولية والفقهية المهمة التي بحث فيها الفقهاء والأصوليون في عصور مختلفة.
وقديماً بين الإمام البزدوي رحمه الله اختلاف العلماء في الاجتهاد بالرأي، وذكر أن الاجتهاد بالرأي الذي هو محتمل للخطأ إنما يجوز عند الضرورة حتى لم يجز الاشتغال به مع وجود النص والضرورة إنما تثبت في حق الأمة لا في حقه - عليه السلام - إذ الوحي يأتيه في كل وقت فكان اشتغاله بالرأي كاشتغالنا به مع وجود النص وهذا كتحري القبلة، فإنه يجوز لمن بعد عن الكعبة ولم يجد سبيلا إلى الوقوف عليها للضرورة لا لمن كان مشاهدا للكعبة ولا لمن يجد سبيلا إلى الوقوف عليها لعدم الضرورة الحاجة إلى التحري. ثم ذكر اتفاق العلماء أن العمل يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم بالرأي في الحروب وأمور الدنيا واحتج الفريق الأول بالنص وهو قوله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ} ﴿النجم: ٣﴾ { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿٤﴾} [النجم: 4] فقد بين أنه لا ينطق إلا عن وحي والحكم الصادر عن اجتهاد لا يكون وحيا فيكون داخلا تحت النفي وبالمعقول وهو أن النبي - عليه الصلاة و السلام - كان ينصب أحكام الشرع ابتداء والاجتهاد دليل محتمل للخطأ؛ لأنه رأي العباد فلا يصلح لنصب الشرع ابتداء؛ لأن نصب الشرع حق الله تعالى فكان إليه نصبه لا إلى العباد بخلاف أمور الحرب وما يتعلق بالمعاملات؛ لأن ذلك من حقوق العباد إذ المطلوب إما دفع ضر عنهم أو جر نفع إليهم مما يقوم به مصالحهم واستعمال الرأي جائز في مثله لحاجة العباد إلى ذلك وليس في وسعهم فوق ذلك والله تعالى يتعالى عما يوصف به العباد من العجز والحاجة فما هو حقه لا يثبت ابتداء إلا بما يكون موجبا علم اليقين. [1]
ويعد الدكتور عبد الوهاب خلاف من العلماء المعاصرين الذين بحثوا في موضوع الاجتهاد بالرأي، فذكر أولا معناه، والمراد منه، قائلا: المراد بالاجتهاد في اصطلاح علماء الأصول هو “بذل الجهد للتوصل إلى الحكم الشرعي العملي من دليله التفصيلي”. والمقصود بالرأي في اصطلاحهم “التعقل والتفكير بوسيلة من الوسائل التي أرشد الشرع إلى الاهتداء بها في الاستنباط حيث لا نص”. فالاجتهاد بالرأي هو “بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه”.. الاجتهاد في واقعة فيها نص على الدلالة لتعيين المراد من النص لا يسمى في الاصطلاح الأصولي اجتهاداً بالرأي، والاجتهاد في واقعة لا نص فيها بغير الوسائل التي أرشد إليها الشرع لا يسمى في الاصطلاح الأصولي اجتهاداً بالرأي. فالرأي الذي هو أساس الاجتهاد فيها لا نص فيه هو التفكير بطرق التفكير التي أرشد إليها الشرع لأنها أقرب إلى الصواب وأبعد عن الزلل وتهدف إلى المصالح العامة الحقيقية للناس. وهذا هو الرأي المحمود وهو المراد فى قول معاذ بن جبل حين سأله رسول الله وقد ولاه القضاء باليمن: كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟ قال معاذ أقضى بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله وإن لم أجد اجتهد رأيي.[2]
ويضيف الدكتور عبد الوهاب خلاف: وأما الرأي، أي التفكير بغير الطرق التي حددها الشرع، فهذا عموما يكون تفكيراً بالهوى وقريباً من الخطأ، وهذا هو الرأي المذموم وهو المراد بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إياكم وأصحاب الرأي”، وبقول كثير من الصحابة: “من قال في الشرع برأيه فقد ضل وأضل هذا”. ومن هذا يتضح أن الاجتهاد بالرأي نوع من أنواع الاجتهاد العام، لأن الاجتهاد العام يشمل بذل الجهد للتوصل إلى الحكم المراد من النص الظني الدلالة. ويشمل بذل الجهد للتوصل إلى الحكم فيا لا نص فيه بالقياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غير من الوسائل التي أرشد الشرع إليها للاستنباط فيا لا نص فيه، ويشمل بذل الجهد للتوصل إلى الحكم بتطبيق قواعد الشرع الكلية. [3]
ويضيف الدكتور عبد الوهاب خلاف، قائلاً: إن الله سبحانه لم يترك الناس سدى، وأن له فالقران يتضمن موادا قانونية جامعة، أحكاماً بخصوص في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسكت من النص على أحكام أكثر الوقائع ولكنه وضع علامات عليها ووضح طرقاً توصل إليها المجتهدون وأهل الذكر باجتهادهم وتفكيرهم والواقعة التي دل على حكمها نص قطعي في وروده وقطعي في دلالته، بمعنى أنه لا مجال لمن أن يترك منه ألا يكون هناك حكم بدينه، الاستماع للاجتهاد فيها والواجب اتباع الوحي. فلا مجال للاجتهاد في أن إقامة الصلاة فريضة على سبيل المثال. ولهذا اشتهر قول الأصوليين أنه لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص قطعي صريح.... [4]
ويوضح الدكتور عبد الوهاب خلاف كيف يتم الاجتهاد في ضوء النص الذي يحتمل الدلالة على معنى أو أكثر فالأحكام هنا فيها مجال للاجتهاد ولكنه اجتهاد في حدود معينة، وعلى المجتهد أن يبذل جهده في هذا الترجيح بالاجتهاد بالأصول اللغوية والتشريعية وما يصل إليه باجتهاده عليه العمل به ؛ مثلا قوله تعالى في آية الوضوء {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6)، يحتمل أن تكون الباء للإلصاق فالمفروض مسح الرأس كله، وأن تكون الباء للتبعيض فالفروض مسح بعض الرأس لا كله. وقوله عليه السلام: “والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا”، يحتمل أن يكون المراد بالتفرق تفرق الأبدان فيثبت خيار المجلس. وأن يكون المراد تفرق الأقوال أي الإيجاب والقبول فلا يثبت خيار المجلس. والواقعة التي ما دل على حكمها نص أصلا واتفق المجتهدون على حكم فيها في عصر من المصور لا مجال للاجتهاد فيها والواقعة التي ما دل على حكمها نص ولا انعقد على حكمها إجماع هي مجال الاجتهاد بالرأي. وهى فى كل زمن وفي أية بيئة مجال للاجتهاد من أهل الاجتهاد ولا يمنع اجتهاد فيها سابق من اجتهاد لاحق. وقد كان أهل الفتيا من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأمة المجتهدين يفتي بعضهم في هذه الوقائع بخلاف ما يفتي به الآخر، وما اعترض مجتهد منهم على مخالفه لأنه خالفه. والسبب في هذا أن المرجع في الاهتداء إلى الحكم الأمارات وطرق الاستنباط والاهتداء بهذه الطرق والأمارات يختلف باختلاف عقول الباحثين وباختلاف ما يحيط بهم من أحوال وملابسات. [5]
أما من الذين يسوغ لهم الاجتهاد بالرأي، فيبين الدكتور عبد الوهاب خلاف أنهم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتى من المواهب، واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي، ولا يسوع الاجتهاد بالرأي للجماعة إلا إذا توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، ويكون ذلك بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه. فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد تتجنب الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يكون الاجتهاد بالرأي الأمثل، والأصوب. [6]
[1] ينظر: عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى: 730هـ): "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي"، دار الكتاب الإسلامي، بدون طبعة وبدون تاريخ، 3/ 206.
[2] د. عبد الوهاب خلاف: “مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه”، دار الكتاب العربي، مصر ، 1955، ص 7.
[3] د. عبد الوهاب خلاف: “مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه”، ص 8.
[4] د. عبد الوهاب خلاف: “مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه”، ص 8.
[5] د. عبد الوهاب خلاف: “مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه”، ص 9.
[6] د. عبد الوهاب خلاف: “مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه”، ص 9.