مقدمة:
الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (1310 - 1383 ه = 1893 - 1963 م) فقيه ومفسر مصري ومن كبار العلماء والفقهاء المسلمين المعاصرين. ولد في منية بني منصور (بالبحيرة) وتخرج بالأزهر (1918) وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة (1927) وكان داعية إصلاح نير الفكرة، يقول بفتح باب الاجتهاد. وسعى إلى إصلاح الأزهر فعارضه بعض كبار الشيوخ وفرض عليه ترك العمل في الأزهر، فعمل في المحاماة (1931 - 1935) وأعيد إلى الأزهر، فعين وكيلا لكلية الشريعة ثم كان من أعضاء كبار العلماء (1941) ومن أعضاء مجمع اللغة العربية (1946) ثم شيخا للأزهر (1958) إلى وفاته. وكان خطيبا موهوبا جهير الصوت. له 26 مؤلفا مطبوعا، منها (التفسير) أجزاء منه في مجلد، ولم يتم، و (حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي) و (القرآن والمرأة) رسالة، (والقرآن والقتال) و (هذا هو الإسلام) و (عنصر الخلود في الإسلام) و (الإسلام والتكافل الاجتماعي) و (فقه السنة) الأول منه، و (أحاديث الصباح في المذياع) و (فصول شرعية اجتماعية) و (حكم الشريعة الإسلامية في تنظيم النسل) محاضرة، و (الدعوة المحمدية) رسالة، و (فقه القرآن والسنة) الجزء الأول، و (الفتاوى) و (توجيهات الإسلام) و (الإسلام عقيدة وشريعة) و (الإسلام والوجود الدولي). [1]
والدارس لفتاوى وفقه الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله يجد أن الإمام قد أجاب على أسئلة العصر إجابات فقهية متميزة عبرت عن عقلية فقهية فذة ومعاصرة.
ومن هذه الأجوبة التي قدمها الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله، ما يأتي:
فقه العيد:
يبين الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله أن بعض الذكريات تأخذ صبغة دينية، فيشرع في أيامها من العبادة ومظاهر المودة والفرح والمحبة والسرو، ما لا يجوز شرعاً في غيرها، عندئذ تأخذ في الإسلام اسماً خاصاً، أي الغرض المطلوب منها وهو اسم الأعياد، وبذلك كان العيد في المجال الإسلامي سبيلاً للفرح والذكرى، ومن هنا كانت ذكريات الإسلام الأولى نوعين، نوع هو ذكريات اجتماعية قومية، ليس فيها تشريع ديني خاص، ولا ترتبط بنص ديني معين، وللمسلمين في هذا النوع أن يختاروا من أحداثهم البعيدة أو القريبة ما يرون أنه جدير بالذكرى. فيختارون من الميقات الزمني، ما يذكرون الناس فيه بعوامل تلك الأحداث ونتائجها، ويكون في أيدي الجيل الحاضر مصباحا من الماضي يسترشدون به في مستقبلهم. ومن ذلك ما اتخذه المسلمون في عهودهم الأخيرة من ذكريات أحداثهم، ذكرى الهجرة الأولى، وذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم. [2]
أما النوع الثاني، كما يبين الإمام الأكبر محمود شلتوت، فهو ذكريات أيضاً، ولكنها اقترنت بشئون تعبدية حددت فيها الكيفيات والمظاهر، كما حدد لهـا الزمن والمكان، وهذا النوع ليس مجالاً لتصرف الناس، فزمنه وعبادته ومظاهره، تبقى كما حددها الشارع. ولا يصح أن يقاس عليها غيرها من الذكريات ويخلع عليه خصائصها الدينية وإذا كانت الذكريات على وجه عام من شئون المجتمعات البشرية، فإن الأعياد وهي لا تخرج عن دائرة الذكريات، سنة فطرية أيضا عرفها الناس سبيلاً لإظهار الفرح والسرور، كما عرفوا الذكريات سبيلا للعظة والاعتبار منذ أن وجد الاجتماع وعرف كل مجتمع تاريخه وأحداثه، وبحكم هذه السنة الفطرية، كان لكل أمة أيام تظهر فيها ذكراها، وتعلن سرورها، وتتبادل فيها آيات المودة والمحبة. [3]
ويضيف الإمام الأكبر محمود شلتوت مبيناً وإذا كانت الذكريات على وجه عام من شئون المجتمعات البشرية فإن الأعياد وهي لا تخرج عن مجال الذكريات، سنة فطرية أيضاً عرفها الناس طريقاً لإظهار الفرح والسرور، كما عرفوا الذكريات مجالاً للموعظة والاعتبار منذ أن وجد الاجتماع وعرف كل مجتمع تاريخه وأحداثه، وبحكم هذه السنة الفطرية، كان لكل أمة أيام تظهر فيها فرحها، وتتبادل فيها علامات المودة والمحبة، وتسري عن نفسها ما يصيبها من مشاق الحياة. وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار حينما دخل المدينة يلعبون في يومين، ورثوا اتخاذهما عيدا عن الجاهلية. وقد كان من شأن الإسلام فيما يحد من عادات وتقاليد أن ينكر فاسده، ويقر صالحها ويعدل منحرفها. ومن هنا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصل الفكرة، ولكنه عدلها بإلغاء يومي الجاهلية، وعين لهم يومين آخرين، قد ارتبط بهما في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ البشرية عامة، ما جعلهما غرة في جبين الدهر كله، هما: يوم الفطر ويوم الأضحى. [4]
فقه البدعة:
ويقرر الإمام الأكبر محمود شلتوت أن إقامة الاحتفال باسم الدين لا بد أن تكون مبنية على أساس صحيح من الدين، وذلك كما في الاحتفال بصلاة الجمعة والعيدين والوقوف بعرفة فإذا لم يكن للدين فيه أمر ولا ترغيب، كانت إقامته باسم الدين، وإفراغ صبغة الدين عليه. من الصلاة والقراءة والدعاء افتراء على الدين، وتشريعا بالهوى، فيما يعمل باسم العبادة والتقرب إلى الله. وهذا باب يهيء فتحه للناس وجوها كثيرة من صور الابتداع في الدين من شر ما يصاب به الدين، فيه يدخل في الدين ما ليس منه، وعن هذا الطريق ينتشر الدين بين الناس بصورة تبعد قليلا أو كثيرا عن حقيقته التي رسمها الله، وتعبد الناس بها، والتزمها في العمل رسوله صلى الله عليه وسلم. [5]
ويضيف الإمام الأكبر محمود شلتوت أن المبتدع قد تغمره صور الابتداع بالسكوت عن إنكارها، تساهلا أو مجاملة للعامة وأشباههم فيما تهوى نفوسهم واعتادوا عليه وبذلك تطمس معالم الدين الأولى. ويلحقها التغيير والتحريف ويتقرب الناس إلى الله بما لم يشرعه الله، قربة إليه. ومن هنا تنسى الشرائع، وتضل العقول. نعم، للناس أن يقيموا ما شاءوا من الاحتفالات الإنسانية التي يظهرون بها سرورهم بنعم الله الخاصة بهم. كزواج أو ميلاد، أو قدوم غائب. ولهم أن يقيموها ذكريات لحوادث تاريخية، كان لها في حياة أمتهم أثر ينبغي أن يذكر ولا ينسى للناس أن يقيموا هذه وتلك. باسم العائلة، أو القومية، لا باسم الدين، يتخذ له مظهر دیني، تخصص له صلاة معينة، ودعوات معينة، من أيام معينة، في أشهر معينة، في حين أنه لم يرد شيء عنها في الدين كماه والشأن فيما اعتادوه ليلة النصف من شعبان، وإن ذلكم هو الابتداع في الدين الذي حذرنا الرسول إياه، وأنذرنا سوء عاقبته. [6]
فقه الهجرة:
إن نقطة التحول في حياة الإسلام هي الهجرة، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيدا لتثبيت البناء الإسلامي وميلاد دولة داخل إطار من القوة، ووضع حد لمهازل الاعتداءات المتكررة عليه من قوى الشر. إن ثلاثة عشر عاما قضاها الإسلام بين أرجاء مكة، وسط أمواج من الكبت والإرهاق، دون أن ينال من القلوب إلا عدداً يحصى ـ هذه السنوات الثلاث عشرة كانت كفيلة بأن يفكر المسلمون فيهجر مكة ليكون لهم وجود وكيان، وليستقر بناء الإسلام في أرض أظهرت الترجاب به، ووسط قلوب أظهرت استعدادها للذود عنه.. هذه الهجرة من الأحداث الإسلامية الكبرى، التي يجب أن تظل تحمل العظمة في نفس كل مسلم. والهجرة اسم للخروج من أرض إلى أخرى، وهي من الهجر، بعض الترك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: , والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، ثم غلب إطلاقها على هذا الحادث التاريخي العظيم الذي غير وجه البسيطة، وحول اتجاه الناس عن مجارى الشر والشقاء إلى سبيل الخير والسعادة. ذلك الحادث، هو انتقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، الذين آمنوا به من مكة مهبط الوحي لأول مرة، إلى المدينة، مأوى رجال الحلف والمناصرة. وقد عنى المؤرخون كثيراً وهم يتكلمون على هذا الحادث بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تتصل بالرسول وأصحابه الذين لبوا دعوته. [7]
هكذا تمت الهجرة وكانت مبدأ الوجود الدولي المسلمين، الذين لم يكونوا قبلها إلا أفرادا مضطهدين معذبين مبعثرين، وصار لهم بها وحدة، لها شعارها الخاص، ونظامها الخاص، وهدفها الخاص وقيادتها الخاصة، صار لهم بها جوار غير الجوار الأول، عقدوا معه معاهدة الأمن وعدم الاعتداء، وبهذا وذاك، كملت لهم عناصر الوجود الدولي فيما بينهم بعضهم مع بعض بتشريعاتهم الداخلية، وفيما بينهم وبين غيرهم بتشريعاتهم الخارجية ومن هنا كانت الهجرة من بين الأحداث كلها جديرة أن تتجه إليها الأنظار، ويتخذ منها مبدأ للتاريخ الإسلامي، ليكون للمسلمين من ذكراها في كل عام، ومن التوقيت بها في مكاتباتهم وعقودهم وأحداثهم الخاصة والعامة، درس متصل الحلقات، يساير حياتهم كلها، ويذكرهم في جميع أوقاتهم وتصرفاتهم بتلك الجهود. [8]
التي اكتنفت الهجرة قبلا وبعدا، فتوحي إليهم دائما بأسباب العزة، وتوقظ شعورهم وتنبه وعيهم إلى أنها مبدأ الوجود الدولي للمسلمين الأولين، وأن العظمة التي صارت اليهم، لم يمنحوها منحا، ولم تأت اليهم عفوا، وإنما منحوها بجهود سابقة عليها ولا حقة بها، وأنه لا بد في الاحتفاظ بهذه العظمة التي ولدتها تلك الجهود من الاحتفاظ بتلك الجهود، و بتنشئة الأمة عليها، وبغرس بذورها في أبنائها حتى تظل قوية الأركان، شامخة البنيان، ترد عنها كيد الكائدين وطمع الطامعين. وهكذا فيما أعتقد، أراد الأولون حينها اتخذوا الهجرة للتاريخ أساسا. وإني لأرجو من الله العلي القدير الذي هيا للمسلمين الأولين وسائل التضحية في سبيل المجد والعظمة، أن يجعل من نهضة المسلمين الحاضرة ما يرد الأمر إلى نصابه، ويرجع بهم إلى تاريخهم الذي يذكرون به جهود به يستأنفون أمثال تلك الجهود.. حتى يعود إليهم ما كان لأسلافهم. [9]
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". إن صاحب العقيدة العالمية، والمبادئ الإنسانية العامة، كالتوحيد والسلم، وتخفيف الويلات عن البشرية، لا تقف بجهوده في سبيل عقيدته أو مبدئه عند أناس معينين، أو في أماكن مخصوصة، وإنما يسمو بعقيدته ومبدئه عن التقيد بالجنسيات والأقاليم. والعالم كله والحياة كلها، والناس جميعا، ميدان لعمله، وموطن يتخير منه الخصب المثمر. وإذا ما نبا به مكان، ولم تسعفه تربته بالإنبات، تحول إلى غيره حيث يجد بغيته، ويجني ثمرته. وهكذا فعل محمد وأصحابه. ويعرفوا منه، أن أرباب العقيدة الواحدة، أو المبدأ الواحد، يجب أن يكونوا كتلة واحدة متماسكة، ويدا واحدة عاملة، تربط العقيدة بين قلوبهم. والأخوة بين عواطفهم، لا أثرة ولا طبقات، ولا سيد ولا مسود و قد آخى صاحب الهجرة بين المهاجرين والأنصار كما آخى بين الأنصار بعضهم و بعض، وصار المؤمنون جميعا بهذا التآخي يدا واحدة على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم. [10]
فهذه هي الأحداث الإسلامية التي كانت عناصر أساسية في البناء الإسلامي، الذي أثبت للمسلمين وجوداً دولياً معترفا، إنها أحداث ضخام لها في تاريخ الإسلام أبرز صفحاته، ولا تزال في نفس كل مسلم الذكريات الإسلامية الأولى، يطالع فيها أسباب العزة والمجد، ويتلقى عنها، دروس الحياة القوية الناهضة، ويعرف بها أن سنة الله في نهضة الأمم واستقرار سلطانها، ترجع أولا وقبل كل شيء إلى الإيمان المالك للقلوب، وإلى الصبر الذي يذلل الصعاب. وإلى الإخلاص الذي يربط الإنسان بر به، وتهون به لديه وسائل التضحية بها نعرف أن أسلافنا ما عرفتهم العزة عفوا، ولا هبطت عليهم منحا، وإنما وصلوا إليها بالجد والعمل والمثابرة. والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فعلينا أن نفقها واحدة فواحدة، وأن نتعرف فيها مواطن العظة والاعتبار، ونتخذ منها مصابيح الهداية والإرشاد، فتسمو حياتنا وتنظر إلينا أرواح الأولين وهي في عليين، نظرة الفرح والابتهاج بمحافظتنا على مقدساتهم وسيرنا في سبيلهم، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. [11]
[1] الزركلي : "الأعلام"، ط15, دار العلم للملايين، بيروت, 2002، 7/ 137.
[2] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، مطبعة دار الجهاد، 1958، سلسلة الثقافة الإسلامية، (3)، ص 13.
[3] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 14.
[4] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 14.
[5] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 39.
[6] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 40.
[7] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 46 – 47.
[8] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 53.
[9] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 54.
[10] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 55.
[11] محمود شلتوت: "الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، ص 70 – 71.