الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم، وبعد: فقد صدر مؤخراً كتاب جديد للشيخ العلامة فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس حفظه الله بعنوان (طريق العلم وأخلاق العلم)، وهو من إصدارات دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي.[1] والكتاب واحد من إصدارات الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس المهمة والتي تضع المبادئ والأصول لمنهجية العلم في الإسلام، وسبق أن أصدر الشيخ العديد من المؤلفات العلمية الهامة في هذا المجال.
وفي المقدمة ذكر فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس أن الكتاب يتألف من فصلين، هما على قدر عال من الأهمية، يتناول الفصلُ الأولُ مطلبين، وهما: طرقَ تحصيل العلم كما جاء في نصائح العلماء البارعين، وقرائح الأدباء المبدعين، ومنهج الطلب كما بيَّنه عددٌ من العلماء المتبحرين. أما الفصلُ الثاني، فيبحث في جوانبَ مهمة من أخلاق العلم، في محاولةٍ لتصحيح واقعٍ لا يناسب الحياة العلمية السليمة.
وعند مطالعة الكتاب، نلحظ نقولات هامة جداً للعلماء المسلمين، نقلها الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس من مصادر التراث الإسلامي، وهي تدل على إطلاع واسع، وتنقيب عميق جداً في أعماق التراث الإسلامي كما هو مألوف في مؤلفات شيخنا الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس. فلنتأمل عميقاً في قول: "يحيى بن كثير (ت 129ه)، إذ يقول: "لا يستطاع العلم براحة الجسم". وهذه منهجية ضرورية جداً لطالب العلم أن طلب العلم يحمل في ثناياه المشاق والمصاعب الجمة التي يتعين على طالب العلم التغلب عليها. وينقل الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس عن سفيان الثوري قوله: "أولُ العلم الإنصاتُ، ثم الاستماعُ، ثم الحفظُ، ثم العملُ به، ثم النشُر". ونلحظ أن هذه هي منهجية العلماء عبر العصور خصوصاً في عصرنا الحاضر. وهنا يقرر الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس تقريراً هاماً جداً حول طلب العلم، فيقول: "فحق على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار مِن علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَكُ خيرٌ إلا بعونه. فإن مَنْ أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفتْ عنه الرِّيب، ونوَّرتْ في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضع الإمامة". [2]
ويقرر الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس التقرير الاتي حول طلب العلم، فيقول ما نصه: "فالعلمُ متعةٌ، ولكنْ يحتاج أن يُخلص الإنسانُ إليه، ويعطيه كلَّه، حتى يحرز منه بعضَه، فلذلك هذا العلم يَحتاج من الإخوة الطلبة أنْ يُوجِّهوا وجوهَهم نحوه بكل همّةٍ وإخلاصٍ وتفانٍ، وقد قال بعضُ السلف: مَنْ لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، فلا بُدَّ في طلب العلم أن يكون الإنسانُ محترقًا به حتى يأتي بشيءٍ منه، أمّا إذا كان متوانيًا ملتصقًا بالعلم التصاقًا ضعيفًا، فما أهونَ العلمَ أنْ يبعد عنه، ولا يكون قريبًا منه، لأنَّ العلم هذا ما يمكن أنْ يكون إلا بالسهر والدأب والمواظبة والعشق أو الخوف، وإذا غاب من الإنسان عاملُ العشق للعلم أصبح متاجرًا، فلذلك مِنْ أهمِّ ما ينبغي في طالب العلم أن يكون فيه عشقٌ للعلم، فإذا عشِق العلم بذل له مهجته ووقته وراحته، فجاء مِنْ ذلك بالخير الكثير، وجاء مِنْ ذلك بالمقام الرفيع، وجاء مِنْ ذلك بالغنى الواسع، وقد يكون الإنسانُ في أول الطلب مملقًا، وهذا شأن العلماء". [3]
ويوصي الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس طلبة العلم بإخلاص النية لله رب العالمين، فيقدم النصيحة المهمة الآتية لطلبة العلم، قائلاً: " فلهذا أوصي إخوتي الطلبة بأن يكون لديهم الإخلاص في تحصيل العلم، والتفاني فيه، والحرص عليه، والتوفر له تمامًا، فإذا ما حصلتْ مثلُ هذه المقاصد والعزائم من القلب صدقًا وفعلًا جاء العلمُ، وجاءَ الفضلُ، وجاءَ المقام، وجاءَ الغنى، وزال الفقرُ، وهذا شيءٌ مألوف... فلهذا ينبغي للإخوة الطلبة الاهتمامُ بهذا العلم، وأن يشعروا بأن كلَّ واحد منهم هو المسؤول عن هذا العلم، وإشاعته وإعاشته في الناس". [4]
ويرى الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس أن المنهج ضروري جداً لطالب العلم، فيقول في هذا السياق: " مِنْ أهم الأشياء للطالب أنْ يكون له منهجٌ يمشي عليه، ويتدرّجُ في الطلب على أساسه، وإنما يُؤخَذُ هذا من العلماء المُجرِّبين المتبحّرين، ويذكر الشيخ أنه قد وقف على عددٍ من المناهج المقترحة، وضعها الغزالي، -وللزَّبيدي شارح «الإحياء» ثم ابن الجوزي، ثم الشوكاني من المتأخرين. [5]
أما عن (أخلاق العلم)، وهي موضوع الفصل الثاني من الكتاب، فقد كتب الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس، قائلاً: " العلم روضةٌ غنّاء، تُبهج الناظرَ بأشجارِها الوارفةِ، ومياهِها الرائقةِ، وأنسامِها العطرةِ، ويجبُ على ذويها والمتمتعين بها الحفاظُ عليها، ولكن إذا أُهملتْ ولم تُعط حقَّها من العناية والتشذيب، والمتابعة والتهذيب، وهبَّتْ عليها رياحٌ عاتيةٌ، فأمالتْ غصونَها، وكدَّرتْ رونقَها، ولوّثتْ مياهها، ذهبَ ذلك الجمال، وغابتْ تلك النضارة. أقصدُ مِنْ هذا أنَّ للعلم أخلاقًا يجبُ أنْ تظلَّ مرتبطة به أخذًا وعطاء، وتحمُّلاً وأداءً، وبحثًا ونقاشًا، وإذا أُهملت النفسُ التي تحمله كانت كتلك الروضة الغناء التي أصابتها الأعاصيرُ، ونال منها الإهمالُ". [6]
ومن أخلاق العلم، كما يقرر الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس، الاعتراف بالفضل لأهل الفضل في العلم، وإحسان القول في الآخرين، ومن ذلك عدم التعصب للنفس، ورؤية فضلها على الآخرين، يقول الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس: " والعدلُ أن يكون الباحث متجرّدًا، يرى للآخرين ما يراه لنفسه، ويعلم يقينًا أن مواهب الله تعالى غير محصورة في شخصٍ دون شخصٍ، ولا في زمان دون زمان، وأن الأمة تتآزر وتتناصر، وتتآلف وتتكاتف، وتتقارب وتتحابب، وأن الجميع يشاركون في خدمة العلم والدين، ولكل مجتهدٍ نصيب، ولكل عامل جهدُه واجتهادُه، والعاقل من أدّاه عقله إلى الاعتراف بفضائل الآخرين، والكامل مَنْ أورثه كمالُه النظرَ المنصفَ إلى العلماء: السابقين واللاحقين والعصريين"، ومن أخلاق العلم، كما يقرر المؤلف، (حفظ اللسان، واحترام الأقران)، ومن أخلاق العلم أن يترك الإنسان الأثر الطيب، ومن ذلك (رعاية حق المخالف بعد موته)، ومن ذلك (النظر إلى الآخرين بعين المحبة والشفقة والرحمة)، ومن أخلاق العلم: عدمُ اعتدادِ الباحثِ الزائدِ ببحوثهِ وتآليفهِ وأعمالهِ العلميةِ، والنظرِ إلى أعمال الآخرين بعين النقص والازدراء مِنْ غير إنصاف"، ومن أخلاق العلم "ومن أخلاق العلم: أن يكون التأليفُ ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، والشكرِ لله على ما أعانَ وألهمَ، وإرادة انتفاع الأمّة بذلك، لا للتباهي والترفعِ والترزُّقِ ومسابقةِ الآخرين"، "ومن أخلاق العلم: الاعتذار للعلماء والمؤلفين"، " ومن أخلاق العلم: معرفةُ ما لدى الآخرين مِنْ حُججٍ وأدلةٍ ووجهاتِ"، " ومن أخلاق العلم: عدمُ المنازعة في العمل العلمي مِنْ تأليف أو تحقيق". [7]
و في خاتمة الكتاب، يقول الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس: " والعلمُ له طرقه ومسالكه وأدواته، وللأخلاق العلمية معاقد وقواعد، ومَنْ عرف تلك الطرق والمسالك والأدوات والمعاقد والقواعد جاء في الصفوف الأولى المرتجاة في حياة الأمة اليوم، وبعد اليوم، وكان له نورُه الذي يسعى به". [8]
[1] ينظر: الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس: "طريق العلم وأخلاق العلم"، دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دبي، ط1، 1445 ه – 2023م. نسخة الكتاب متوفرة إلكترونيا على موقع دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي، على الرابط الاتي: https://www.iacad.gov.ae/ar/media/publications-and-magazines
[2] ينظر: الشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس: "طريق العلم وأخلاق العلم"، ص 11 – 12.
[3] نفسه، ص 24.
[4] نفسه، ص 26.
[5] نفسه، ص 31.
[6] نفسه، ص 59.
[7] نفسه، الصفحات ص 60، 61، 66، 67، 68، 70، 72، 73، 76، 78، 79، 80.
[8] نفسه، ص 83.