من الفتاوى التي أصدرها الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله الفتوى المتعلقة ب (استطلاع الغيب والتشاؤم)، فقد أجاب رحمه الله عن سؤال وجه له أن بعض الناس يدعون معرفة الأسرار والمغيبات بطرق مختلفة، وبعض الناس يتشاءمون من أماكن معينة، أو أيام خاصة، أو أشياء محدودة. فهل لهؤلاء أو أولئك دليل من الدين؟ فقال رحمه الله: يختلج في نفوس كثير من الناس أن الله علق نجاح الإنسان وفشله بأعمال الخير بساعات معينة من اليوم، أو بأيام معينة، هكذا يظن بعض الناس، وبذلك يحجمون عن مشروعاتهم في أيام معينة، ويقدمون عليها في البعض الآخر. وكذلك يتصور البعض أن لاستطلاع الغيب المكنون في جوف المستقبل وسائل يعرفون بها ما يهمهم أن يعرفوه، من حاجة مسروق لم يعرف سارقها، أو شيء مفقود لم يعرف مكانه: وقد اتسع لهم مجال ذلك حتى استخدموا الوهم والتخييل، وانصرفوا بهما عن الحقائق، ومعرفة السنن التي ربط الله بها بين الأسباب والمسببات، وأسلموا أنفسهم لعادات وتقاليد توارثها الجهل حتى تم اللعب بالعقول، مما أدى إلى حرمانها من لذة العلم والمعرفة.
وجاء الإسلام فوجد الناس قد أطبق عليهم الجهل، وتمكنت في نفوسهم تلك التقاليد التي صاروا بها أسراء الوهم والخيال، [1] فعنى عناية كاملة بالإرشاد إلى الوسائل التي تنقي المجتمع الإنساني من أدران الجهل، وجهالة الوهم. ومن هنا تصدى الإسلام للجهل وتتبعه في كل طرقه وأساليبه، وفى كل لون من ألوانه، وواجهه بالدعوة إلى توحيد الله، والتصدي لجهل الشرك والوثنية، وبث في الأنفس والآفاق دلائل التوحيد ولفت نظر الإنسان إليها، وحثه على النظر والتفكير فيها؛ ليؤمن أولاً: بأن العظمة التي تخضع لها الرقاب، والعلم الواسع الذي لا يعزب عنه شيء، والقدرة النافذة التي لا يعجزها شيء في الأرض ولافي السماء ليست لأحد سوى الله سبحانه وتعالى، وبذلك وجه الإنسان إليه وحده، وعلمه أن يقبل على عمله معتمداً عليه وحده في تذليل ما قد يعترضه في طريقه من صور العظات الزائفة، أو الإدراكات المنحرفة التي ينسجها التخيل الفاسد، وتصدى كذلك لجهالة التقليد، وأنكر على الإنسان أن يسلم عقله لغيره، وأن يقف – في عقائده ومعارفه العامة، وسبل حياته عندما ورثه عن الآباء والأجداد ، أو نمى بين الأوهام والخرافات. لكن الذي حدث أن انحرف الإنسان عن تلك المنزلة العالية للعلم وتقدير الحقائق، فقد تملك الإنسان أمران استصعب بهما طريق العلم، واستبطأ بهما طريق البحث والنظر، واستعاض عنهما بطريق التخيل والتخمين، وظنه طريقاً من طرق المعرفة، به يستريح دون عناء، ودون حذر، أمران تملكاه في هذا الشأن: أحدهما: رغبته الملحة في سرعة اكتشاف الغيب، وخاصة فيما يتعلق بمستقبله ومستقبل من يتصل به .[2]
فواجب المؤمنين أن يتنبهوا إلى عبث الدجالين بإشاعة فكرة التشاؤم بينهم ووسائل استطلاع الغيب، هذه الفكرة التي يصير بها الإنسان أسيراً لوهم بكلمة يسمعها، أو بيوم يمر عليه، أو منظر يراه. واجبهم أن يطهروا قلوبهم من هذه الأوهام، وأن يقدموا على أعمالهم وتصرفاتهم وقضاء مصالحهم متى اقتنعوا بها وعزموا عليها، فإذا عزمت فتوكل على الله. معتمدين في ذلك على إيمانهم العميق، وعلى توفيق الله إياهم، وبذلك تسلم حياتهم، وتستقر شئونهم، وتسير بهم سفينة النجاة إلى شاطئ الأمن والاستقرار. [3]
وما قرره الأمام الأكبر محمود شلتوت هو ذاته الذي ذهب إليه الفقهاء المسلمون.
فقد ذكر ابن عابدين من الحنفية أن الكاهن كما في "مختصر النهاية" للسيوطي: من "يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار". والعراف: "المنجم". وقال الخطابي: "هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق والضالة ونحوهما". اه. والحاصل أن الكاهن من يدعي معرفة الغيب بأسباب وهي مختلفة فلذا انقسم إلى أنواع متعددة كالعراف. والرمال والمنجم: "وهو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه، والذي يضرب بالحصى، والذي يدعي أن له صاحباً من الجن يخبره عما سيكون، والكل مذموم شرعا"، محكوم عليهم وعلى مصدقهم بالمروق من الدين. وفي البزازية: يمرق من الدين بادعاء علم الغيب وبإتيان الكاهن وتصديقه. وفي التتارخانية: يمرق من الدين بقوله أنا أعلم المسروقات أو أنا أخبر عن إخبار الجن إياي، اه. قال ابن عابدين: "قلت: فعلى هذا أرباب التقاويم من أنواع الكاهن لادعائهم العلم بالحوادث الكائنة. وأما ما وقع لبعض الخواص كالأنبياء والأولياء بالوحي أو الإلهام فهو بإعلام من الله تعالى فليس مما نحن فيه"، اه ملخصاً من "حاشية نوح" من كتاب الصوم. [4]
وبين ابن عادبين في "مطلب في دعوى علم الغيب": "أن دعوى علم الغيب معارضة لنص القرآن فيمرق من الدين بها، إلا إذا أسند ذلك صريحاً أو دلالة إلى سبب من الله تعالى كوحي أو إلهام، وكذا لو أسنده إلى أمارة عادية بجعل الله تعالى". وذكر صاحب الهداية في كتابه "مختارات النوازل": "وأما علم النجوم فهو في نفسه حسن غير مذموم، إذ هو قسمان: حسابي وإنه حق وقد نطق به الكتاب. قال تعالى - {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]- أي سيرهما بحسبان. واستدلالي بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض، ولو لم يعتقد بقضاء الله تعالى أو ادعى علم الغيب بنفسه يمرق من الدين، اه. وتمام تحقيق هذا المقام يطلب من رسالتنا "سل الحسام الهندي". [5]
وبين النفراوي من المالكية أن لا يجوز لأحد تصديق الكاهن وهو الذي يخبر بما يقع في المستقبل، ولا العراف وهو الذي يخبر بما وقع كإخراج المخبآت وكتعيين السارق لأن ذلك من دعوى علم الغيب ولا يعلمه إلا الله، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» . ووقع خلاف بين العلماء في جواز عمل المنجم بمعرفته في خاصة نفسه، والمشهور من مذهب مالك عدم العمل به ولو في خاصة نفسه، فإذا غم الهلال وأداه علمه للصوم في غد لا يلزمه الصوم في غد، وللشافعي روايتان والمعلوم من مذهبه وعليه الجمهور أنه يعمل على ذلك. [6]
وبين المرداوي من الحنابلة أن الكاهن: "هو الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار." والعراف: "هو الذي يحدس ويتخرص". وقال في الترغيب: "الكاهن والمنجم كالساحر عند أصحابنا"، وأن ابن عقيل فسقه فقط، إن قال: أصبت بحدسي وفراهتي. قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: "التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية: من السحر". [7]
[1] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 28
[2] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 29.
[3] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 35-36.
[4] ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252ه): " رد المحتار على الدر المختار"، الناشر: دار الفكر-بيروت، الطبعة: الثانية، 1412ه - 1992م، 4/ 242 – 243.
[5] ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي: " رد المحتار على الدر المختار"، 4/ 243.
[6] أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (المتوفى: 1126ه): " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني"، ، الناشر: دار الفكر، تاريخ النشر: 1415ه - 1995م، 2/ 344.
[7] علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885ه): " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الثانية - بدون تاريخ، 1/ 351.