الذات كما يعرفها علماء النفس مجموعة القيم والمثل والمبادئ التي يؤمن بها صاحبها، فالذات البشرية ليست لحما وعصبا، ولو كانت كذلك لكنا جميعا نسخا مكررة مصنوعة من مادة واحدة لا تميز بيننا سوى صورنا الظاهرة وأشكالنا المتباينة، ولذا فليس بغريب ان يضحي كثيرون بكيانهم الجسدي من أجل تحقيق خلودهم الذاتي المتمثل ببقاء ما يؤمنون به من قيم وما يعتنقونه من مبادئ، فغاية الجسد ان يستحيل الى تراب وأما الذوات الشريفة النبيلة فباقية على مرّ الاعصار والدهور، تروي مآثرها كتب التاريخ، ويتناقل اخبارها الرواة، وتغدو مبعث الهام متقد لا تأفل شمسه أبدا. وفي خضم حياة مادية تتسارع احداثها وتتلاحق تطوراتها ينحسر دور القيم والمثل في حياة كثيرين الى حيز ضيق جدا، حين يجد اكثر الناس ان سلطان المادة قد اصبح هو السيد المطاع الذي لا يغلب ولا يقهر، ولا ينتهض للوقوف في وجه تطلعاته شيء، وحين تنتكس الموازين وتختل المقاييس فإن الذات هي الخاسر الاكبر في هذا كله، إذ تصبح قيمة المرء مرتهنة بما يحمل في جيبه من دراهم لا بما يختزن في صدره من مبادئ، ومن البدهي والحال كذلك ان يقل الموفون بعهود القيم وشرائطها الصعبة والمؤدون امانات المبادئ الى اهلها لاسيما إن ترتب على ذلك تبعات وأثقال، وتأمل فيما حولك لتكتشف نتائج هذا الاختلال الخطير وتدرك فداحة الرزء وهول المصاب!
وبالرغم من ذلك فإن الحياة تزخر بنماذج مشرقة من الافذاذ المخلصين في أداء ما يناط بهم من مهمات وأعمال، فيسخرون لتحقيق ذلك كل ما يملكونه من قدرات وطاقات، لكن المزعج في الامر ان هؤلاء المميزين يكافأون بالاهمال والنسيان، بينما يحظى من اهم اقل منهم بذلا وعطاء بالتقدير والمكافأة والترقية، فمن يجرؤ على القول ان الكفاءة والجد هما القنطرة الموصلة الى جنة النجاح في دنيا العالم الثالث,,,, عشر!! إن هذا الوضع المنكوس المعكوس يختزله قول الشاعر:
وإذا تكون كريهة أُدعى لها
وإذا يُحاس الحيس يدعى قنبر!!
ولا ريب ان مثل هذا التعامل المحبط المخيب لآمال الجادين المجتهدين له أثر بالغ السوء في الفت في العزائم وحل عقد الهمم وقتل روح النشاط والعمل، لكنك مع هذا تجد جل هؤلاء المجتهدين مستمرين في عطائهم بلا كلل ولا ملل، فتتساءل: تُرى ما الذي يحملهم على ذلك مع ما يرونه من غبن فاحش وتجاهل متعمد لدورهم الايجابي في بناء المجتمع؟ ويكون الجواب: الانسجام الذاتي!
نعم! إن الانسجام مع الذات المتمثلة في ما يحمله المرء من قيم ومبادئ هو الهدف الرئيس الذي يسعى الى تحقيقه كل عامل يحرص على ان يكون محسنا متقنا لعمله، وحسبه بذلك ان يكون قد وفى بمتطلبات التناغم السليم بين الواقع المعيش وعالم المثل، وبتحقيق مثل هذا التوازن يستشعر المرء معنى السعادة ويحقق التوافق النفسي المأمول، وليس الامر قاصرا على الجانب المادي العملي، بل هو مطلوب بالدرجة نفسها في الجوانب الروحية المتمثلة في سلوكيات التعامل مع الآخرين، فالصديق الذي يؤدي لصديقه حقوق الصحبة كاملة غير منقوصة لن يخالطه أدنى شعور بتأنيب ضمير فيما لو لم تؤد اليه حقوقه على وجهها، فيكفيه أداؤه لما عليه وزيادة، فلا تثريب عليه حينئذ ان أضاع الآخرون حقوقه ولم يبادلوه وفاء بوفاء!, ولعلك تدرك بذلك قيمة (الانسجام الذاتي) في استقامة الحياة الانسانية، فلو غابت هذه القيمة عن النفوس فإن قيم الاخلاص والصدق والايثار والتضحية ستغيب معها حين يتعامل الناس فيما بينهم من منظور المعاملة مثلا بمثل، وحسب الانسجام الذاتي بذلك شرفا وجلالا.