تحدثنا في القسم السالف من هذه المقالة عن طرف من الدلالات التي تكشف عنها الطريقة التي نرسم بها كلماتنا على الورق وما تنطوي عليه من بيان صادق للحالة النفسية لكاتبها لحظة الكتابة، ومن الطريف فعلا اننا نستطيع بشيء من الحدس والتبصر ان نتعرف من شكل الخط على العديد من صفات كاتبه، فقد يكون الكاتب مثلا مبتلى بالوسوسة والحساسية العالية المتمثلة في حرصه الشديد على ألا تفسر أفعاله بخلاف ما هي عليه من قبل الآخرين، أو أن يساء فهمها ولو في أضيق الاحتمالات واندرها، اذ يتجلى أثر تلك الوسوسة في التأني والبطء في رسم الكلمات ووضع النقط في حاقّ موضعه خشية ان ينتقل نظر القارئ من حرف لآخر فيشكل عليه فهم مقصود كاتبه، وربما كلف ذلك الكاتب التضحية بقواعد الخط المتبوعة، فقد وجدت ان بعض من يكتبون بخط الرقعة يرسمون السين والشين بطريقة النسخ التي تظهر أسنانها الثلاث وذلك خشية ان تقرأ على غير وجهها السليم، بينما تجد على النقيض من ذلك كتّابا لا يقيمون كبير وزن لقراء خطوطهم فتجد أحدهم يرقم الحروف كيفما اتفق دون تأنق أو تثبت أو مراجعة، ولسان حال خطه يقول: ان تلك هي مشكلة القارئ التي يتوجب عليه ان يتصرف ازاءها بفطنته وحدسه، والا فلا حاجة به لقراءة ما كتبه!. وحين ننتقل الى درس خاصية الجنس وأثرها في تجويد الخط، فإننا لن نتفاجئ ان وجدنا كثيرين يعتقدون في بادئ الأمر ان المرأة تتكلف في تجويد خطها وتحسين رسمها بطريقة تتفوق فيها على الرجل، وربما رجع ذلك في نظرهم الى ولع الأنثى بالحلية والتزين مما ينسحب بالدرجة نفسها من التأثير على خطها، لكن ذلك نظر قاصر لا يستند الى حقائق الواقع المشاهدة في عالم الورق، ولأن طبيعة عملي تفرض عليّ - مكرهاً! - فحص خطوط الطلاب والطالبات فيمكنني القول بكل ثقة ان لا فرق مميزا بين خطوط الجنسين، نعم قد تتفنن الطالبات بأمور لا تتصل بخط الكتابة من حيث التسطير طولا وعرضا والتأنق في نوع الورق وتزيينه غير انك لا تتمكن بالنظر الى الخط مجردا من تحديد جنس كاتبه، فذاك موضع ليس للحدس فيه من مجال! لكن يمكنك القول بحسب شواهد الواقع والتاريخ ان حظوظ الرجال في تجويد الخط وتحسينه تفوق بكثير حظوظ النساء، وليس ذلك من باب التحامل على جنس القوارير - أعني النساء لا قوارير الحبر! - والتعصب للرجال، اذ انك واجد أعلام الخطاطين ومشاهيرهم قديما وحديثا من جنس الرجال، وربما لا تسعفك معلوماتك العامة وان اتسعت بذكر اسم خطاطة مشهورة لكنها تجود عليك بأسماء خطاطين، كثر! وحتى في المجال الذي يتسابق الخطاطون إلى التشرف بخدمته والتقرب إلى الله تعالى بكتابته - أعني خط المصحف الشريف - فإنه يبدو مقصورا بصوره شبه تامة على الخطاطين! وربما يعود ذلك الى ان تجويد الخط عملية مضنية تحتاج الى سعة بال وصفاء مزاج وأنامل حديدية تتحكم بانسياب المداد على سطح الطروس بحنكة واقتدار وقياس، وليس لمخضوب البنان ومصقول الظفر في ذلك من نصيب!
بقي أخيرا ان نشير بشيء من الحسرة الى ان هذا الكم الثري من الدلالات قد بات معرضا للزوال والفناء بسبب مكائن الطباعة الحديثة وانتشار الحواسب الشخصية، فهذه المخترعات المفيدة وان وفرت للقراء وضوح الخط وجلاء الرسم الا انها قد ذهبت بالبصمة الوراثية للخطوط فانعدمت بالكلية الفوارق الدلالية بين خط زيد وعمرو ولكن في سبيل الجلاء والوضوح يهون كل شيء!!