طوال نصف القرن الماضي انشغل العالم انشغالا مرضيا بزيادة السكان نتيجة طفرة في الشمال أعقبت الحرب العالمية الثانية كرد فعل طبيعي للخلخلة السكانية التي أحدثتها الحرب، وأخرى في الجنوب نتيجة ارتفاع مستويات الرعاية الصحية بشكل ملحوظ فتقلصت معدلات الوفيات وارتفع متوسط الأعمار. غير أن هذا الانفجار أدى إلى حالة من التشاؤم دفعت للواجهة مقولات النظرية المالتوسية عن الفجوة بين معدل نمو السكان ومعدل نمو الموارد فأصبحت قضية تخفيض معدل الزيادة السكانية تشغل الغرب والشرق وحدثت طفرة كبيرة في انتشار وسائل تحديد النسل. ومع مطلع القرن الجديد وجد الغرب نفسه يعاني قلة النسل على نحو يهدد مصالحه ومستقبله معا. وخطيئة مالتوس الكبرى أنه ركز نظره على البعد الرقمي وحده في عملية زيادة السكان مغفلا القيم الثقافية، فشيوع نمط الحياة الغربي والرغبة العارمة في الاستمتاع الجسدي دون تحمل تبعات رعاية أبناء أديا لعزوف غربيين كثيرين عن الزواج أصلا، بينما كثيرون ممن أقبلوا عليه اكتفوا بأبناء أقل عددا فوصلت مجتمعات للثبات السكاني واتجهت أخرى للتناقص.
ولم تتوقف التداعيات عند هذا الحد بل اضطرت المجتمعات الغربية للحفاظ على آلتها الصناعية الجبارة مستمرة بكفاءة فتح الباب لهجرات واسعة من الجنوب حملت معها مشكلات اقتصادية وثقافية كانت لها نتائجها السياسية، وحتى تستمر هذه الدول قادرة على دفع معاشات المتقاعدين من أبنائها الذين زادت نسبتهم على نحو غير مسبوق في التاريخ كانت في حاجة لعدد من الأجيال الأصغر سنا يعملون ليمولوا معاشات المتقاعدين ومع اختلال النسبة بدأت تغير قوانين الضمان الاجتماعي أحد أهم معالم دولة الرفاه الغربية، وفي نهاية الشوط وصل الأمر إلى حد تبني برامج لمنح مكافآت مادية لتشجيع النسل في دول أوروبية عديدة.
الجديد أن مشكلة نقص السكان ظهرت في مكان غير متوقع على الإطلاق هو اليابان هذا البلد الذي عرف كبلد مزدحم سكانيا فضلا عن كونه شرقي الثقافة، فتقرير وزارة الصحة اليابانية عن معدل الخصوبة عام 2003 دق ناقوس الخطر من نقص معدل المواليد وزيادة نسبة المسنين على التوازن السكاني مستعيرا من القاموس الأوروبي تعبير "تشجيع الإنجاب". فمعدل الإنجاب هو 1،29 طفل لكل امرأة وهي الأدنى في تاريخ اليابان. وبدلا من تشاؤمية متواليات مالتوس التشاؤمية يتداول اليابانيون بقلق أرقام التناقص المتوقعة فبحلول عام 2050 يتوقع أن يتراجع التعداد من 127 إلى 100 مليون ثم إلى 64 مليونا عام 2100. وبدلا من دعايات الستينات والسبعينات لإنجاب أبناء أقل تستعد اليابان لإصدار قانون في إبريل 2005 يتضمن نحو ثلاثين إجراء لزيادة الإنجاب.
وفي الحالتين تشغلنا الأرقام أكثر من القيم رغم أنها صانع التاريخ والحاضر والمستقبل، مع الاعتذار لمستر مالتوس !!.