تجلس إلى ابنك أو حفيدتك أو من تتوسّم فيه مسيرتك . تترك خلفك سنيّك الخمسين أو الستين وأنت تعظه وتحثّه على المثابرة والكفاح ، وتحدّثه عن قيمة الوقت : فالوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك .
وفجأة تسمع أغنية لعبد الحليم أو أم كلثوم فتتذكّر المرّة الأولى التي سمعت فيها تلك الأغنية .
منذ عشرين عاماً ..ثلاثين .. أربعين ؟! كنتَ ـ يومذاك ـ يافعاً تتخطّفك الدنيا ، وترمي بك الأمواج إلى شواطئ مختلفة . الطموح كان في أوجه ، والآمال عريضة ، والمستقبل يبشّر بالخير . أيّـام مرّت بك سريعاً ، وأيـّام عانيت كثيراً حتى تخلّصتَ من آلامها ومن آثار ما تركته في نفسك من مرارة . طويلة كانت سنوات الدراسة ، وساعات العمل ...سوّدت كثيراً من صفحات المذكّرات ، حقّقت كثيراً مما كنت تصبو إليه .. ونسيت أن تتأمّل في المرآة ما فعلته الأيامُ بك .تزوجت .. جاء الأولاد ... وكبروا .. درسوا .. وتزوّج بعضهم ....كم كانت بطيئةً ثواني الانتظار ، ودقائقُ الولادة ، وساعاتُ الكفاح ، وأيّام الامتحان ؟! .. ولكنّك الآن تقف على حافة الكهولة وتنظر خلفك من شرفة ذاكرة ملأتها السنون ... كم هو سريع إيقاع الحياة !.. مـنذ عقود وفي رحلة بحريّة مع بعض الأصدقاء استمعت إلى (رسالة من تحت الماء) ... كنتم تبنون معاً مستقبلاً مشرقاً .. تحلمون .. وتحـلـمون ..
واليوم تستمع إلى تلك الأغنية في ظروف مختلفة وفي سنّ متقدّمة ، ولكنك تشعر وكأنّ ذلك الماضي البعيد لم يكن سوى البارحة ، حيث كنت تخاطب الحياة بصوت جَهْوَرِي : المـوج الأزرق في عينيكِ ... يناديـني نحو الأعمق .
وهـا أنت اليوم ، بصوت يخرج من أعماق القلب وينبض بالحزن والحكمة معاً ، صرت تردّد : إنّي أتنفّس تحت الماء ... إنّي أغرق .. أغرق .. أغرق . فهل تجد الحياة أكثر من طرفة عين ؟
وهل تستحق منّا كلّ هذا العناء ، وكل ذاك الصراع من أجل أشياء مصيرها إلى الزوال ؟..
أم أنك تشعر بوجود غرسة لم تغرسها بعد في جبين الحياة التي لم تستطع أن تشفى من نهمها مما يجعلك تستعين بها عليها وتردد : إن كنت حبيـبي ساعدني كي أشفى منك ؟!..