منذ أن وطىء التتار الأرض الاسلامية العربية, وهم قوم سىء السمعة, حتى أصبحت كلمة "التتار" مجازا لكل معانى البربرية والشراسة والفوضى.هذا الجانب الذى تحمله العقلية العربية لهم, لا يمنع ضرورة البحث مليا فى شئونهم, للتعرف على البعد الثقافى-على الأقل- الذى جعلهم على تلك الصورة الفظة. بعد تأمل الجوانب العسكرية لحملاتهم, وفحص تفاصيل الأحداث العسكرية , التى انتهت بالتهام دولة الخلافة العباسية (بعد حوالى 400سنة من سيادتها على المنطقة , ومناطق عديدة بالعالم). فكانت سببا فى تغيير خريطة العالم, فضلا عن العديد من الظواهر الاقتصادية والسياسية. أدعى انهم قوم حرب..عرفوا أسرار الحرب النفسية, وفنون الحرب من حيث الزمان والمكان. فقد كانوا يرسلون الجواسيس والعملاء الى المناطق المستهدفة لعدد من الأغراض, منها الاستطلاع, واحباط الروح المعنوية قبل مواجهتهم فعليا بترويج الشائعات والأخبار المبالغ فيها والكاذبة. ليس أدل على ذلك من واقعة سقوط بغداد , مقر الخلافة..حيث كانت المعركة الأولى ليوم واحد بل لنهار يوم واحد, تركوا بعده المشاعل والخيام ,وعادوا أدراجهم فى ظلمة الليل. فظن الجميع أنه الانتصار المبين, ليعود التتار بعد سنة واحدة, وقد فعل العملاء فعلتهم طوال السنة, بينما سرح الخليفة رجال جيشه ,ظنا منه أنه لا عودة للتتار ثانية, حتى أن كتب التاريخ وصفت أحوال الجنود المسرحين كما الشحاذين فى الأسواق, وحالة قصر الخلافة بالتسيب والانشغال بأمور المشاحنات العائلية. ووقعت الواقعة دون أدنى مقاومة تذكر, وأعدم الخليفة وأهل بيته ورجاله علنا, وقالوا أن الدم وصل الى الركب امعانا فى وصف شراسة وفظاظة القوات الغازية..(غير واقعة هدم مكتبة بغداد, والقاء الكتب فى النهر حتى سد مجراه).

ترى ماذا عن حياتهم الخاصة والاجتماعية والثقافية, وغيرها؟
ليس أفضل من كتب الرحالة من مصدر ليقرب لنا الصورة, حتى نتعرف عليهم. لذا كانت "رحلات ماركوبولو" من أهم المصادر التى نطالعها, لعلنا نعثر على ضالتنا.
ولد "ماركوبولو" بمدينة "البندقية" أو "فنيسيا" عام 1254م. وهو سليل عائلة نبيلة. عرف الأب بالتاجر النشط , وفى احدى رحلاته التجارية عبر البحر الأسود شمالا ولم يتمكن من العودة, بسبب حروب التتار فى المنطقة. فذهب مع جماعة أخرى لمقابة "قبلاى خان" ملك التتار, الذى كلفة بتوصيل رسالة الى البابا ,يطلب فيها وصول مائة مبشر لنشر المسيحية فى "كثاى" عاصمة البلاد. استغرقت فترة الذهاب والعودة تسع سنوات, وقتها كان "ماركو" قد بلغ الخامسة عشرة من عمره.
وفى عام 1275م عاود الأب وشقيقه الأصغر الرحلة الى "خان" ولكن بصحبة الابن "ماركو" الذى رحب به الملك كثيرا. بل تعلم الشاب لغتهم, وعينه الخان فى الوظائف العامة.. والتى اتاحت له زيارة العديد من البقاع وولايات البلاد..وعبر عن دهشته من عاداتهم وتقاليدهم العجيبة.
بعد سبعه عشر عاما تشوق "ماركو" لبلاده, ومع اعتراض الخان فى البداية, وافق بعد عدة محاولات. فكانت الرحلة الى بلاد فارس أولا عن طريق احدى الموانىء الصينية عام 1292م.. وانتهت الرحلة بعد ثلاث سنوات. وان سجن ماركو بعد ذلك فى بلاده, ثم تزوج, كما كتب كتابه "الرحلات"..الذى لم يقابل بالتصديق من معاصريه. وبعد ستة قرون يعد هذا الكتاب المرجع الرئيسى الثقة فيما يتعلق بأجزاء من آسيا الوسطى, والأمبراطورية الصينية مترامية الأطراف.

وقد اتبع "ماركو" فى كتابه, وصف المدينة التى يحل.. ولن نشير الا لبعض الويلايات أوالمدن التابعة للخان وهو ما نصفهم بالتتار اجمالا..(مع رصد وانتقاء أسلوب الكاتب الأصلى):
أولا..المناطق القريبة من بلاد التتار وخاضعة لسيطرة الخان:
ولاية "كوتان"..أهلها يدينون بالاسلام, أكبر مدينة فيها "كوتان", وكل شىء لازم لحياة البشر موجود هنا بأعظم وفرة, وهم أيضا يرتزقون بالتجارة والصناعات, ولكنهم ليسوا جندا صالحين.
ولاية "باين".. تحتوى كثيرا من المدن والمواقع الحصينة.يجرى فى هذه الولاية نهر, توجد فى قاعه كثير من الأحجار المسماه بالعقيق الأبيض, ويمكن الحصول على جميع أنواع الأطعمة.ومن عادات تلك البلاد أنه متى سافر الزوج وغاب عشرين يوما, كان لزوجته الحق فى اختيار زوجا آخر.
ولاية شارشان.. السكان من المسلمين , يجرى فيها عدة أنهار, الرمال فيها تغطى مساحات كبيرة. الا أن مناطق كثيرة منها خربة بسبب الحروب مع التتار.
مدينة "لوب"..وهى بداية صحراء لوب, ديانة أهلها الاسلام. والرحالة يتوقفون بها اذا كانوا سيعبرون الصحراء. أن هذه الصحراء مأوى لكثير من الأرواح الشريرة,التى تستدرج المسافرين الى حتفهم بكل أنواع الايهام الخارقة للمألوف.
مدينة "ساتشيون".. متى أتممت رحلة ثلاثين يوما , بلغت تلك المدينة. وتسمى الولاية "تانجوث", والناس عباد أصنام. ومنهم بعض التركمان والمسيحيين والمسلمين. شعبها ليس شعبا تجاريا, يشتغلون بالزراعة.
منطقة "كامول".. تقع فى ولاية "تانجوث", تحتوى الكثير من المدن والقلاع.السكان وثنيون يعبدون الأصنام ,ولهم لغتهم الخاصة. والرجال منغمسون فى الملذات , واللعب على آلات الموسيقى والغناء والرقص والقراءة والكتابة. وعندما يصل الرجال الغرباء, يترك الرجال الدار ,اذ أنهم يعطون نسائهم وزوجاتهم وبناتهم أوامر ايجابية بامتاع الضيوف, مقابل المال.

حتى يصل "ماركو" الى الفصل الرابع والأربعون, عن أصل مملكة التتار. كانوا يسكنون فى اقليمين شماليين..دون أن تكون لهم مساكن ثابته..ولم يكن لهم ملك, بل كانوا تابعين لأمير قوى "أون خان". بمضى الوقت زادت القبيلة, فدبر الأمير خطة لتفريق شملهم..فحدد لهم مناطق محددة من الأرض سكنا لهم, وكلما شب عصيان فى احدى الولايات الخاضعه له ,تخير بالقرعة ثلاثة أو أربعة فى المائة منهم ليعملوا على القضاء علي العصيان. ادرك التتار ربقة العبودية, فصمموا على اقامة اتحاد صلب بينهم..ثم انتقلوا الى الشمال بعيدا عن الأمير.
بعد انقضاء ردح من الزمان, وحوالى عام 1162م,قاموا باختيار "تشنجيس خان" ملكا عليهم.وقد برز بشجاعته واقامة العدل والاعتدال فى المعاملة, واشتهر بمكارم الصفات.
فلما وجد نفسه هكذا على رأس العدد الوفير من الشحعان ,امتلأ طموحا فى الخروج من الصحارى والبرارى , وأمرهم بالتسلح. وبسط سيادتهعلى المدن والولايات القريبة..(تسع ولايات).
فلما نجح, صمم على القيام بأشياء أعظم. فقدم طلبه الى الأمير "أون خان" للزواج من ابنته, وهو ما اغضب الأمير, ودارت المعركة, وانتصر القائد التتارى..وسيطر التتار على المناطق التى كانت خاضعة للأمير.
خلفه "سيهن خان"..وكان السادس هو "قبلاى خان" الذى قابله وعاش تحت كنفه "ماركو".وكل الخانات تدفن فى جبل يسمى "الطاى", مهما كان مكان موت الخان, وأثناء نقله الى الجبل, يقتل جنوده أى رجل يقابلهم قائلين:" ارحلوا الى العالم الآخر , وهناك كونوا فى خدمة مولاكم المتوفى".

كما توقف "ماركو" أمام عادات التتار وجيوشهم.. يقول: سأزيدكم بيانا عن التتار.لا يقيمون بأرض واحدة أبدا, مع اقتراب الشتاء,ينتقلون الى المناطق الدافئة, وفى الصيف ينتجعون المواقع الباردة فى الجبال. خيامهم مصنوعة من قضبان مغطاة باللباد, ونظرا لكونها مستديرة, وتوضع مع بعضها على صورة لطيفة ,فهم يستطيعون جمعها فى حزمة واحدة, يحملونها معهم فى هجراتهم على ضرب من العربة له أربع عجلات.
ولديهم أيضا نوع ممتاز من المركبات ذات العجلتين, وهى مغطاة باللباد, تحمى من يستقلونها من البلل. وهذه كلها تجرها الثيران والجمال.
النساء يتولن شئونهم التجارية, لأن الرجال للصيد والتصقر وكل ما يتعلق بالحرب, ولديهم خير ما فى العالم من صقور وكلاب.
وهم يقتصرون تماما فى طعامهم على اللحم واللبن, ويصنعون من لبن الأفراس نبيذا. ولا يبرز نساءهم فى العالم أحد من النساء بما فيهن من عفة واحتشام فى الخلق, ولا فى حب أزواجهن وأداء واجباتهن نحوهم.ونتيجة لكثرة الزوجات (عشرة أو عشرين) الذرية أكثر وفرة من أى شعب آخر..والزوجة الأولى هى صاحبة الامتياز الأعلى, وتعد أكثرهن شرعية.

أما عقيدتهم.زفهم يؤمنون باله له طبيعه رفيعة سماوية, يحرقون له البخور, ويرفعون الصلوات. ويعبدون آخر "ناتيجاى" ويحتفظ كل بيت بتمثال له. والآخير هو الرب الذى يرعى لهم شئون حياتهم الدنيوية, ويحفظ لهم أطفالهم وصحتهم.

وأسلحتهم القسى والقضبان (الدبابيس) الحديدية والحراب.والقوس هو سلاحهم الأساسى, ويجيدون استخدامه, ومنذ نعومة أظفارهم يدربون الأطفال عليه. وقد عرف عنهم قوة التحمل, فالرجال تبقى على صهوة الخيل ليومين ولسلتين دون ترجل, ولا يأكلون الا شرب اللبن ولمدة شهر كامل , لو دعت الضرورة لذلك. كما يتميزون بطاعة الرؤوساء, مع شجاعة فى المعارك وهم قساة القلوب.

عن جيوش التتار ونظام زحفهم.. يزحف القائد فى أية حملة من قوة أفراد لا تقل عن مائة الف راكب. ضابط لكل عشرة رجال, وآخر لكل مائة, وآخر لكل الف وعشرة آلاف.
عندما يتقدم الجيش, يرسلون كوكبة رجال تتقدمه مسيرة يومين, كما توضع فصائل فى الجانبين وفى المؤخرة, منعا لهجوم مفاجىء.
اذا كانت المهمة بعيدة, لا يحملون الا الشىء القليل. ولكل رجل ثمانية عشر حصانا, مزودون بخيام صغيرة مصنوعة من اللباد. فى استطاعتهم الزحف عشرة أيام بغير تجهيز أطعمة, يعيشون على دم ماشيتهم أو خيولهم, وأحيانا يحتفظون باللبن معهم.
عند بدء المعارك, لا يتقدمون للاشتباك مع الأعداء, بل يظلون يحومون حولهم, ويطلقون السهام من كل جانب المرة بعد المرة, وأحيانا يتظاهرون بالفرار. فيظن الخصم بالانتصار, وفجأة يتجدد القتال الحقيقى بعد أن تهيأ التتار للخصم, وهمد الخصم. ويعرف عنهم حسن تدريبهم لخيولهم الى درجة عالية, وهو ما يحقق لهم الانتصار.
(يضيف ماركو بولو فى ختام هذا الجزء..أنهم الآن –وقت كتابة المذكرات- دخلهم الفساد..قسم منهم تبنوا عبادة الأوثان, ومن يسكنون الولايات الشرقية تبنوا عادات العرب والمسلمين).

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية