أطفال يسيرون بانتظام بجوار الرصيف المقابل، تختلف ملامحهم لكن تتفق حقائبهم المدرسية التي تتوسطها خريطة بيرو (إحدى دول أمريكا الجنوبية)، شاب ممتلئ، ينتظر الإشارة الخضراء بملل وسط الزحام، يخرج يده اليسرى وبعض جسده من وسط نافذة سيارته احتجاجا على الطقس الحار، علم المكسيك يتمدد على ساعده كوشم، بناية ضخمة تقع على ضفاف مدينة فورت لودر ديل (جنوب شرق فلوريدا) تعانقها لوحات كثيرة كتبت باللغة العبرية.
ولاية فلوريدا (جنوب أمريكا) يقطنها الملايين من أصول وعروق مختلفة، يتضح ذلك جليا عندما تتصفح الوجوه والقنوات الإعلامية المختلفة سواء مرئية، مسموعة أو مقروءة، هذه الولاية المشمسة دائما تتكلم عدة لغات. إجمالي عدد سكان فلوريدا نحو 18.982.378 شخصا، 12.465.029 شخصا هو عدد المواطنين البيض، بينما عدد السود يصل إلى 2.335.505 أشخاص، ويبلغ عدد اللاتنين (الهيسبانيك) القادمين من أمريكا الجنوبية حوالي 2.682.715 شخصا، أما سكان فلوريدا من أصول شرق آسيوية فعددهم 266.256 تقريبا، عدد سكان فلوريدا من جذور عربية وشرق أوسطية يربو على 452.678.
السمة البارزة في فلوريدا هو عدم وجود مظاهر احتفالية للجالية العربية، حيث تختفي جنسياتهم الأصلية وعاداتهم وأعلامهم وتقاليدهم داخل المساجد والمراكز الإسلامية.
الطالب الكويتي محمد الفضل (26 عاما) يدرس تقنية المعلومات في جامعة ويست بالم بيتش في شرق فلوريدا، انفجر غضبا قبل قليل أمامي، قال: "في المطعم العربي المجاور، طلب مني النادل العربي أن أخفض صوتي عندما أتكلم باللغة العربية مع صديقي السعودي حتى لا يشعر الزبائن بالخوف ولا تنبت الريبة في داخلهم، لهجته تهديدية، شعرت أنه قذفني إلى الخارج بلسانه، هل ما فعله منطقي؟".
السعوديون تحديدا، بعد أحداث سبتمبر أصبح بعضهم يرتدي جنسيات مؤقتة عند سؤالهم عن مسقط رأسهم، فمنهم من يدعي أنه هندي، تركي، إيراني، خوفا من أسئلة طويلة، متراصة، ومترادفة...
تقول طالبة العلوم السياسية في جامعة جنوب فلوريدا الفتاة السعودية سهير البريك: "أكذب نادرا، لكن في الشارع فقط تحاشيا لاستفسار لا يشبع، في الجامعة استمتع بالإجابة لأني أملك الوقت وأدرك الأسباب الشرعية التي تأتي وراء السؤال، لا أنسى عندما سلمت رأسي لسيدة في صالون نسائي بميامي لتغيير لون شعري، سألتني عن جنسيتي، قلت لها إني باكستانية، كدت أن أترك رأسي في حضنها وأغادر حينما حاولت أن تهاتف صديقتها التي تتبنى طفلا باكستانيا وتملك أسئلة كثيرة حول حضارة بلده الأصلي".
أستاذ العلاقات العامة في جامعة أوهايو المصري سمير لطفي يقول: "المواطن الأمريكي العادي يترك منزله في الساعة السابعة ونصف صباحا يعود مرهقا الساعة الخامسة، لا يملك الوقت للأسئلة والانتباه لما يدور حوله، كان ينظر للمهاجرين والطلاب الأجانب بعطف وفضول، يسألهم باقتضاب عن وسائل المواصلات وطريقة اللباس، النظرة تغيرت تماما بعد الحادي عشر من سبتمبر، أصبح يخشى الأجنبي، يحذر من ركوب الطائرة معه أو السكن بجواره".
كارلوس قريزا (44 عاما)، برازيلي يحمل الجنسية الأمريكية، يملك محلا ضيقا لخدمة السيارات في جنوب فلوريدا، أعطاني قبل أيام قليلة مفاتيح سيارتي وقصة ترتعش: " قبل 4 أشهر، خرج من المحل هندي ملتح ودخل أمريكي أبيض، سألني الأخير عن جنسيتي، أجبته، انشرح وانسل إلى الداخل".
هل علامات القلق التي تستلقي على بعض الوجوه مبرر حقيقي للانزواء وتغييب الهوية في ولاية تختلط فيها الأعراق، الأديان والأجناس؟
الصحافي المتخصص في الشرق الأوسط في قناة جنوب فلوريدا السادسة ، يلوم العرب والمسلمين ويعتبرهم السبب الحقيقي وراء ضعف دورهم على مستوى فلوريدا وأمريكا: "في عام 1940 كان يبلغ عدد اليهود نحو 25 ألفا فقط، حاليا 750 ألفا، يعود السبب إلى قدرة اليهود على الانتشار والوضوح، لا يمكن أن يجعل العرب أحداث سبتمبر الأسود مبررا لخوفهم، أذكر أن صوماليا كان يخفي جنسيته الأصلية عام 1995 عن زملائه في العمل، سألته عن السبب أثناء تحقيق صحافي، إجابته كانت بليدة، من الطبيعي أيضا أن يواجه المسلم صعوبات بعد تفجيرات نيويورك لكن مقاومتها وتجاوزها يجيء من خلال الانفتاح والتعبير عن الواقع بشجاعة تامة".
أذكر جيدا الخبر الذي كتبته صحيفة (لوس أنجليس تايمز) في صفحتها الداخلية قبل أسابيع ويتعلق بغضب سعوديين من حلقة بثها برنامج (ليت نايت شو) مع كونان براين الذي يذاع على قناة إن بي سي ويسخر فيها من غياب المرأة السعودية عن الانتخابات البلدية، حينها تابعت الموضوع وأرسلت "إيميل" إلى منتج منفذ في البرنامج يتعلق بالشكوى التي أرسلها طلبة سعوديون عبر البريد ورده عليها، قال باول فين: "البرنامج ساخر، ويهزأ من أمريكا وأعضاء الحكومة دائما، لا يجب أخذ الموضوع بشكل جاد، نحترم السعودية كبقية دول العالم، وجهنا الدعوة لكاتب الرسالة للمشاركة في إحدى حلقات البرنامج للحديث عن السعودية، أرسل مباشرة اعتذارا صريحا عن المشاركة، ماذا يجب أن نفعل؟".
التفريط بفرصة ذهبية كالتي وفرها برنامج مسائي يتابعه الملايين أمر يدعو للضيق، كم نحن بحاجة ماسة من أي وقت مضى للحديث عن ثقافتنا، تقاليدنا، أحلامنا، وطموحنا للعالم.
الحماسة التي نصرفها في المجالس، في المنازل والأندية لا تكفي، في فرنسا استطاع الأستاذ أحمد أبودهمان عبر رواية (الحزام) أن يقدم القرية والبيئة السعودية التقليدية بشكل معبر بلغتهم، الدكتور سليمان الهتلان أثناء دراسته في أمريكا، كان يكتب بوضوح وعقلانية عن قضايانا الملحة في صحف أمريكية واسعة الانتشار، داليا رحيمي، استطاعت في ألمانيا أن تعكس صورة المرأة السعودية المثقفة، الكاتب العربي مأمون فندي يطل بموضوعية في برامج السي إن إن الإخبارية.
الشجاعة، هي وحدها التي ستساعدنا على الفخر بجنسياتنا العربية في العالم، ستجعل أعلام السعودية، الكويت، مصر، الإمارات، سوريا، وغيرها ترفرف في فلوريدا شأنها شأن أعلام إيطاليا وكندا والبرازيل.