كعادته جاء على بغتة! هكذا هو الشتاء في بلاد لا تعرف من فصول السنة الاربعة سوى فصلين، فنحن نسمع مذ كنا صغارا بفصلي الربيع والخريف في دروس الجغرافيا لكننا لا نراهما هنا! ولا يقف العجب عند كل هذا الحد بل يتعداه الى قسمة الفصلين ونصيب كل منهما من اشهر السنة، فهناك صيف يمتد لسبعة اشهر، وشتاء يستأثر بثلاثة فقط، واما الشهران الباقيان «3 و11» فمحل تناهب الفصلين وتداول الخصمين، فتارة ينتزعهما الصيف بسيف لهيبه البارق الحارق، وتارة اخرى يبسط عليهما الشتاء عباءته الباردة! والناس في التعصب لهما منقسمون الى: صيفيين وشتائيين، فالأولون يستحسنون من الصيف خفة ملابسه وحرارة شمسه التي تبعث النشاط في البدن وطول نهاره المتسع لقضاء حوائج المعاش وقلة مؤونته على الفقراء، اما الآخرون فيقدمون الشتاء عليه لما فيه من هطول الامطار وتجدد الهواء واجتماع الشمل في لياليه الطوال حول المجامر الدافئة حيث تحلو المسامرة والمحاورة، ويستأنسون في تفضيل الشتاء بالأثر المشهور (الشتاء ربيع المؤمن: طال نهاره فصام، وقصر ليله فقام). وآية الفريقين تتكشف في استعجال كل منهم مقدم حبيبه قبل اوانه، ففي الايام الاخيرة من فصل الشتاء وعند الشعور بأدنى درجة من درجات الدفء النسبي الموقت يهرع الصيفيون الى ارتداء الملابس الصيفية الخفيفة والتحرر من قيود الفصل الثقيل، إلا ان فصول الصحراء تحسن كأهلها فنون الكر والفر، ولذا فكثيرا ما يفاجئهم الشتاء بكرة انتقامية من كراته الباردة فيلحقهم من ذلك الاذى والضرر، وربما حملتهم العزة بالصيف (!) على المقاومة وعدم التراجع مهما اشتد القر، ويتكرر الحال نفسه عند انصرام الصيف اذ يفتح الشتائيون خزائن ثيابهم المكتظة نافضين عنها غبار الصيف متى احسوا بنسمة باردة شاردة تداعب وجوههم، حتى انك لتشعر بالبرد فعلا ـ ولا برد ـ حين ترى القوم مثقلين بتلك الملابس الصوفية الداكنة فيستذكر الذهن بطريقة لا شعورية صورة دببة القطب الشمالي بفرائها الكثيف!
ولأننا في بواكير الشتاء فإن الحديث يجرنا الى طول لياليه، والمولعون بالسهر وسكون الليل وهدأته يجدون في الشتاء بغيتهم، فأهل اللهو والبطالة يجدون للهوهم وغفلتهم ليلين في ليلة واحدة فينسدرون في غيهم ويتمادون فيما يضرهم ولا ينفعهم، واما اهل الطاعات فيسهل عليهم قيام ليله اذ يجدون فيه متسعا للنوم في اوله، وشغل بقيته بالصلاة والتهجد وقراءة القرآن، ولأهل الثقافة والقراءة والكتابة من ليل الشتاء نصيب طيب فإنهم يهتبلون في الليل هدوءه وسكونه وانفكاك القلب من التعلق بمشغلات الحياة ومعتركها النهاري المزعج، فتتسع بذلك مساحة الابداع ويعظم الانتفاع بساعاته الطوال، غير ان ليل الشتاء لا يخلو من مكدرين متولدين عن برودته القارسة: احدهما غلبه النعاس فيه، اذ ان برودته تدفع المرء الى البحث عن مزيد من الدفء بإحكام قفل المواضع التي يتسرب منها الهواء البارد، ومتى ما اصبح المكان دافئا مغلقا لا يتجدد هواؤه فإن الشعور بالخمول يتسرب الى النفس ويبدأ النعاس يداعب العيون، وسرعان ما يستسلم المرء لنداء الساعة البدنية فيؤوي الى فراشه الدافئ تاركا السهر لأهله القادرين على مغالبة النعاس وكبح جماح سلطان النوم!
والمكدر الآخر يتمثل في الشعور بالجوع لطول ساعات الليل وشدة البرد، فيكون ملء البطن بالطعام وسيلة للتغلب على عويل الامعاء، ومتى ما امتلأت المعدة بالطعام انساب دفق الدم الى الامعاء لإتمام عملية الهضم، فيقل تركيز الذهن وتضعف قدرة الاستيعاب لأن البطنة كما يقال تذهب بالفطنة! ولذا فإن ساعة من ليلة صيفية حارة قد تعدل في وفرة النتاج وبركة البحث ليلة شتوية كاملة! فما اصعب المفاضلة بين الاثنين!