يذهب بعض منظرى "ما بعد الحداثة " الى أن الثقافة أصبحت الآن أكثر أهمية من الاقتصاد فى قيادة التغير الاجتماعى.
هذه النتيجة هى فى الحقيقة الاجابة المباشرة على سؤال سابق, نصه: "لماذا تبقى بعض البلاد فقيرة ومتخلفة على الرغم من الانفتاح على آليات وقوانين السوق الحرة,بل وعلى الحياة الحديثة بعامة؟!" وهو ما تلاحظ فى بعض بلدان "العالم الثالث, بعد الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب العظمى الثانية,وجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة على قمة بنية القوة العالمية. وهو ما يرجع الى بنياتها القوية قبل الحرب, مع عدم اصابتها بسؤ ..ثم احتكارها للتقنيات الجديدة والتى باتت تتجدد بسرعة كبيرة.. فضلا عن سلامة البنية التحتية فى البلاد.
ولم يكن من الطبيعى أن تبقى هكذا , ولا تجد اقتصاديات بلدان أخرى قادرة على شراء منتجاتها. فكان التوجه لدعم بلدان أوروبا الغربية وآسيا, وعلى الجانب الآخر, لمواجهة الزحف الشيوعى المحتمل. كما لا يمكن غض الطرف عن بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقا, التى قد تجد فى الحل الماركسى , حلا لمشاكلها.
وقد رأت مجموعة المحللين من خبراء التنمية, ثلاث مشكلات فى البلدان الفقيرة: اولها عدم قدرتها على انشاء المصانع الحديثة.. وثانيها حتى اذا استطاعت ,فلا توجد القدرة على ملاحقة التقنيات المتجددة.. ثالثهاوهو ما اعتبروه الأكثر أهمية, وهو أن الملامح الثقافية لتلك البلدان الفقيرة عاجزة عن ملاحقة التطور.
لفهم تلك الفجوة بين البلدان الغنية الحديثة والأخرى الفقيرة, تعددت الآراء, يمكن ايجازها فى أن الدوافع المحركة (على تنوعها) هى مفتاح الانتقال من المجتمع التقليدى الى الحديث. فاعتقد البعض أن تراكم رأس المال يقود عملية التحديث, ويرى البعض هو عدم قدرة تلك البلدان الفقيرة على توليد رأس المال أو انتاج تكنولوجيا لكى تصبح حديثة (أى لأسباب قبل الاقتصادية), ويرى البعض أن "النظام" هو الأصل وما يستتبع بروح الابداع, حتى قال مجموعة أخرى بضرورة توافر سلسلة من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية ثم الثقافية حتى يتسنى ويتحقق "التحديث".
الطريف أن المحللين لم يجدوا علاقة بين سكنة المدن الكبرى والتحديث, لوجود البعض على تخلفة على الرغم من سكنته للمدن الكبيرة تلك. وربما الأكثر فاعلية هو نقل التكنولوجيا الحديثة من لدول المتقدمة, مع الاستثمار على أرضها, ثم مشاركة وسائل الاعلام لدعم الفكرة وابراز الجديد وشرحها للناس.
عاد وانتقد البعض كل مقولات التحديث تلك, وذلك منذ عقدين من الزمان, منهم "اليخاندرو بورتس" و"ويليام كاناك".. ومجمل أقوالهما,أن كل ما قيل من نظريات من قبل هى اجتماعية الطابع, ولم توثق للتغيير الثقافى.. وأصبح السؤال: كيف تتعدل مواقف الأفراد, وسلوكهم عند السكن فى المدن والعمل فى المصانع (مثلا)؟
وهنا جاء دور منظرى "ما بعد الحداثة"..قالوا بأن الثقافة اصبحت الآن أكثر أهمية من الاقتصاد فى قيادة التغيير الاجتماعى..بل ان الثقافة هى التى تدفع الى التغيير الاقتصادى.
ففى دراسة "أوسكار لويس" على المجتمع المكسيكى وبورتوريكو (الأكثر فقرا) أن الناس تقتسم الفقر هناك مع ثقافة مختلفة عن الدول غير الفقيرة..وقد أوجزها (فقدان الأمل وعدم القدرة على التحرك, مع ادمان الخمور)..وهو ما استتبع بطريقة انفاق المال, بنية العائلة, نظم القيم, العلاقة بين الأفراد.
وقد أوضح أن ثقافة الفقر, يلزمها توافر بعض الشروط: الانتاج من أجل الربح.. ارتفاع نسبة البطالة.. انخفاض الأجور .. عدم توافر المنظمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. تأكيد بعض القيم لدى الفئات القادرة, مثل أن الوضع الاقتصادى المنخفض يرجع الى لعدم كفاءة شخصية..الخ. ونتيجة رواجع تلك الثقافة , تصاحب أفراد المجتمع حالة من الاحباط العام, مع رواج الحلول الفردية.
وبالنظر الى ثقافة الفقر على مستوى العائلة..نرى انخفاض أو حتى غياب مرحلة الطفولة, حوادث هجر من الزوجات لبيوتهن وأولادهن, كما تنتشر ظاهرة الأم المعيلة أو التى تعتمد على الأم أساسا. كما يمكن اضافة عيوب أخرى لزنوج أمريكا مثلا(مصاعب نتيجة التفريق العنصرية).
عموما يرى الكاتب أن الغاء الفقر أسهل من الغاء ثقافة الفقر. وبالتالى فلا حيلة الا اعادة النظر فى الهياكل الاجتماعية, كى تصبح أكثر تنظيما أو مشاركة فى المنظمات الاجتماعية, بالاضافة الى التمسك بقيم المشاركة والترابط بداية من الأسرة الى المجتمع. هذا المعنى (التنظيم) هو ما قال عنه "غاندى" أنه أعظم اختراعات البشرية (حيث يعنى أن الناس كانوا منظمين فى طبقات , وهو ما أكسبهم الشعور بالهوية وبعض القوة والقدرة , على الرغم من صعاب فترة مقاومة الاحتلال الانجليزى, وهو ما قلق من تأثير سلبيات ثقافة الفقر).
ما سبق محاولة لقراءة أحد محاور الكتاب الهام "من الحداثة الى العولمة" تأليف :"ج. تيمونز روبيرتس" و"أيمى هايت", ترجمة "سمر الشيشكلى".زوالصادر عن "عالم المعرفة" (المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب – الكويت).