خلال عملي في مجلة الدوحة في مطلع الثمانييات لم أكُ أعجب لأن نصف الكمية المطبوعة منها كانت توزع في السودان، وفي ذلك الزمان كانت مجلة روز اليوسف توزع في السودان 65 ألف نسخة، وهو في تقديري ما يعادل مجموع التوزيع اليومي لسبع صحف سودانية مجتمعة في الوقت الراهن، وكنا نحرص على شراء الأهرام خاصة في اليوم الذي كان فيه محمد حسنين هيكل يكتب فيه عموده الأشهر "بصراحة"، ويوم الثلاثاء كنا نشتري "أخبار الأسبوع" المصرية، ومن سبق لبق، يعني ما لم تكن موجودا حول الكشك لحظة وصول الصحيفة فلن تحصل على نسخة منها وخلال فترة حكم نميري للسودان واغتيال الصحافة، صارت الشرق الأوسط والحياة الأكثر مبيعا في السودان، بينما كانت الصحيفة المفضلة لمعارضي حكم نميري هي القبس الكويتية... ولكن أشياء كثيرة تغيرت في دنيا الصحافة، وأصبحت كل الصحف العربية "محلية" التسويق، ولا تحلم ببيع أكثر من نسخ محدودة "للمهاجرين" المقيمين خارج حدود البلد الذي تصدر فيه الصحيفة، فلم يعد القارئ حريصا على اقتناء صحيفة ما لمعرفة نتائج الانتخابات الفلسطينية أو اتفاقية السلام السودانية أو كارثة السونامي، فكل الأخبار الخارجية التي تنشرها الصحف تكون معلومة لدى القارئ قبل صدور الصحيفة، وحتى الأخبار المحلية التي "عليها القيمة" تكون سكند هاند في الصحيفة لأن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وشبكة المعلومات العالمية توفرها أولا بأول.. وهذا ما حدا ببعض الصحف العربية المهاجرة إلى إصدار ملاحق محلية تستهدف القارئ في البلد الذي تروج فيه تلك الصحف... وسلاح تلك الملاحق ليس "الأخبار" ولكن التحليلات والتحقيقات والمنوعات... بعبارة أخرى لم تعد الصحف مصدرا رئيسا للأخبار، ومن ثم فقد تحول معظمها إلى "الرأي"، وصارت تحتفي بالمقالات التي تتناول ما وراء الأخبار أو تقرأ ما بين سطورها، وصارت تولي الأحداث المحلية اهتماما أكبر... والإنسان العادي لم يعد بحاجة إلى صحيفة يومية لمعرفة ماذا سيفعل جون قرنق بعد شهرين، ولكنه بحاجة إليها لمعرفة موعد توزيع الأراضي الموعود منذ عامين... وتهمه تفاصيل كشف تنقلات المعلمين، وأسماء المقبولين في الجامعات... وزيادة أو خفض الرسوم الجمركية على السلع... وبالطبع فهناك أخبار تهم شريحة من القراء لا تنقلها الفضائيات ولا الإذاعات أو مواقع الإنترنت الرصينة: ماذا كانت ترتدي أليسا في حفل رأس السنة؟ وما مصير مهرجان هلا فبراير في الكويت بعد أن صار موضع ملاسنات برلمانية على مدى السنوات المنصرمة؟ هل صحيح أن فيفي عبده توجهت إلى الكويت فقط للمشاركة في عمل مسرحي لا رقص فيه؟ وما هي آخر اكتشافات مريم نور في الطب البشري والنفسي والتربوي وعلم الحيوان والجيولوجيا والأنثروبولوجيا؟ وما هي أخبار هالة سرحان وليليان أندراوس؟ هل صحيح أن جعفر عباس سيعقد مؤتمرا صحفيا يقدم فيه أدلة على بطلان المزاعم بأن وجه نبيلة عبيد تعرض للتشويه إثر جراحة تجميل؟
ولأن المنافسة صارت حادة فقد عمدت معظم الصحف إلى الجمع بين الرصانة والزبالة... تحليلات متعمقة عن الوضع في العراق، وكلام تافه عن "الوضع" الذي حدث لتلك الفتاة التي تزعم أن أحمد الفيشاوي هو والد الجنين الذي أنجبته... والفيشاوي يقول: مش أنا!