تخلو انباء الكوارث المدمرة من مواقف إنسانية فريدة، حتى انك لتجد فيها النقيض وضده، فتطوف فيها بين مواقف تستحق الاكبار والإجلال، وأخرى تنضح بالمرارة والخزي، لكنها في كلتا الحالين تبعث في الذات البشرية استجابة شعورية حميدة، اذ انها تنظر بعين التقدير والامتنان الى قيم شريفة تجلت ساعة المحن وشدة الكرب، كما يعتريها شعور بالنفرة والامتعاض حينما تطالع صور الرذائل الممقوتة التي استوطنت نفوسا شوهاء ناقصة ولم يتكشف وجهها القبيح إلا زمن الشدائد! وربما كانت كارثة امواج (تسونامي) اكثر الكوارث حظا في وفرة هذه المواقف وتنوعها، ويرجع الفضل في ذلك الى التغطية الإعلامية الواسعة والمستقصية لأخبار هذه الكارثة الدامية، لا سيما ما يذكره الناجون من حكايات تعكس ابعادا انسانية متباينة في معايشة هذه المحنة الأليمة، فقد ذكرت بعض فرق الانقاذ ان كثيرا من الضحايا احتبسوا تحت الانقاض احياء إلا انهم تركوا بلا غوث من الناجين الذين تجاهلوا اصوات استغاثتهم ومضوا في البحث عن ذويهم وأقاربهم معرضين عن صرخات الضحايا في اثرة بغيضة يتجرد بها الإنسان من خاصية الانسانية! غير ان حكاية روتها الصغيرة مريم وصدقتها صنائع الامواج تعرض لموقف نبيل نادر الحدوث، لقد كانت مريم ساعة الكارثة في خلوة من (خلاوي) تحفيظ القرآن في احدى قرى شرق سريلانكا، وفي اثناء الدرس صاح المعلم بالتلاميذ: اهربوا اهربوا فقد جاء الطوفان! كان في الخلوة 40 طفلا ومعلمهم، لم ينج منهم إلا ثلاثة، وتحكي مريم كيف ان الماء غمر المكان بسرعة مذهلة، وانها نجت من الغرق بفضل الله بعد ان لامستها مخالب الموت او كادت، لكن المعلم المذكور ـ وهو محور حديثنا ـ قدم للعالم درسه الاخير في باب النجدة والايثار حتى النفس الاخير، فلم يكن كالجبناء الذين لا تهمهم إلا حياتهم، ولكنه استشعر حمل امانة الصبية الصغار الذين يتحلقون حوله صبيحة كل يوم ليعلمهم القرآن، كان هدير الامواج المزمجرة يصم الآذان، وكان الصبية على صفحاتها كحبات الخرز المنثورة على أديم ازرق، وفي مصطرع الماء رأى المعلم كيف حملت موجات المد الثائر كل شيء حاول الوقوف في وجهها من اشجار وأحجار وانى لضعيف مثله مخلوق من ماء وطين ان يصمد ويقاوم، وكيف تكتب له النجاة وقد تعلق بعنقه هؤلاء الصبية المساكين؟! كانت الامواج تعلو به طورا فتكاد روحه ان نخلع من جسده، ثم تعود لتقذف به مرة في غيهب اعماقها المفزعة، لم يكن همه النجاة بنفسه، وانما كان همه الاكبر انقاذ اولئك الصغار الذي ظل ممسكا بأيدي ستة منهم، وربما لم تدم هذه الحال طويلا ولعلها كانت لحظات قصيرة إلا انها في قياس المحنة تمر كأعوام ثقال، فالأزمان لا تقاس بالساعات، ولكن بما تحمله من احداث ووقائع، وهل من حدث اعظم من صراع بين الحياة والموت، حياة تكاد تنسرب من الايدي كما الماء المندفع من زق مشقوق؟!
لم يستطع الصغار الصمود طويلا، إلا ان المعلم ظل ممسكا بأكفهم حتى اللحظة الاخيرة، لم يكن بوسعه ان يفعل اكثر مما فعل، لكن جبروت الموت كان المنتصر في النهاية, وبعد بضعة ايام عثر المنقذون على جثة المعلم وكفاه تطبقان بقوة على اكف الصبية الستة! كان ذلك الدرس الاخير الذي لقنه هذا المعلم المجهول للعالم، فأكسبه من خلود الذكر وديمومة الصيت ما لا يقوى الموج العاتي على دفنه وطيه! وفيه يصدق قول شوقي حقا:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم ان يكون رسولا

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية