في مدينة كوستي في السودان الأوسط، درج شخص مختل عقليا على رفع يديه بالدعاء: يا رب مليون جنيه،.. وعندما يسألونه ماذا سيفعل بذلك المبلغ، كان يقول إنه يريد أن يبني سورا عاليا مسقوفا للمدينة ويحكم إغلاقه بالأقفال، ثم يطير فوق البحر ويرمي بالمفاتيح حتى لا يعثر عليها أحد، ورغم أن أهل تلك المدينة شديدو التعصب لها إلا أنهم لم يكونوا يغضبون من كلام ذلك المجنون بل يضحكون له وتذكرت صاحبنا وأنا أقرأ كلام القس الأمريكي فريد فيليبس الذي وصف السويد بأنها غدة سرطانية ينبغي اجتثاثها وتخليص البشرية منها، لأنها بلد فاسق دنس وكافر، وسر غضب القس الأمريكي هو أن كاهنا سويديا يمثل حاليا أمام القضاء لأنه شتم الشاذين جنسيا ودعا عليهم بالفناء، دون أن تتحرك أي جهة في السويد للدفاع عنه، ويقول فليبس إن ألف سويدي هلكوا في كارثة السونامي في تايلند لأنهم فسقة وعاهرون وفاجرون، وتمنى لو أن المد البحري أهلك مئات الآلاف من السويديين، ولو أن كارثة من أي نوع أبادت الشعب السويدي بأكمله "لترتاح البشرية" منه، وناشد فيليبس في تصريحات تم تداولها على نطاق واسع تايلند منع السويد من دخول أراضيها حتى لا يدنسوها فيحيق بهم غضب السماء! .. السويديون تعاملوا مع كلام القس فيليبس كمزحة ويتداولونه بلا غضب أو سخط! تخيل لو أن شخصا ما قال نصف ذلك الكلام عن إسرائيل،.. لا حول ولا قوة إلا بالله: الأسطول الأمريكي الثالث يتحرك لإلقاء القبض على القائل.. وفرض حظر اقتصادي شامل على البلد الذي ينتمي إليه قائل ذلك الكلام، ومثلما انشغلت الحكومة الأمريكية بصدام حسين عن أسامة بن لادن، فإنها ستنشغل عن أبي مصعب الزرقاوي بمن شتم إسرائيل حتى لو كان الشتم من قبيل الهذيان الذي قاله القس فيليبس! دعك من إسرائيل: ماذا لو قال شخص ما كلاما من ذلك القبيل عن بلد عربي؟ ستنفتح صنابير الردح والقدح دون الالتفات إلى حقيقة أن مثل ذلك الكلام لا يصدر إلا عن شخص ناقص العقل، يبحث عن الشهرة والأضواء.. فكل البلدان العربية - ولله الحمد - مثال للطهر والفضيلة والرجولة والبطولة والفحولة والكرامة ولا يجوز التعريض بها بالحق أو من باب المداعبة والمناكفة.. ومع هذا فالفلسطيني يطلق النكات على أهل الخليل والسوريون جعلوا من أهل حلب مادة للتندر، والمصري لا يمكن أن يلقي عشر نكات دون أن تكون سبع منها في أهل الصعيد، وفي السودان تصدر يوميا مجموعة من النكات عن أهلي النوبيين الذين يسميهم أهل السودان الأوسط "البرابرة"! وكلنا نقول في بلداننا كلاما جارحا مثبطا ومحبطا ولكن يا ويل غيرنا إذا رددوا نفس ذلك الكلام.
أعود بسرعة إلى كوستي وأحد مجانينها الذي لم يجد مكانا ينام فيه سوى مشرحة المستشفى، ووجد شخصا ميتا فيها ورمى به أرضا وتمدد على النقالة وتغطى بالملاءة البيضاء، وتسلل إلى المشرحة ممرض كان قد رأى ساعة جميلة في يد الميت فقرر سرقتها، دون أن يضيء الأنوار كي لا يلفت الانتباه إليه، وتحسس المجنون الذي احتل محل الميت فصاح فيه: فِك، أي "اترك يدي"، ومنذ يومها والممرض يهرول في شوارع المدينة وهو يحرك ذراعيه بعنف ويصيح: فِك..