كنت من أوائل من تعاملوا مع الهاتف الجوّال في العالم العربي، بالتحديد كنت ضمن أول عشرة مقيمين في الوطن العربي يستخدمون الهاتف الجوال، وليس مرد ذلك فقط لأنني إنسان متحضر وبحاجة إلى وسيلة اتصال مضمونة ومأمونة لمتابعة موقف استثماراتي وأرصدتي في الخارج، ولكن لأنني كنت موظفا في شركة اتصالات قطر، وكانت الشركة أول من أدخل خدمة الهاتف الجوال في العالم الثالث قاطبة، وقدمت لي إدارة الشركة الجوال لأن الخدمة كانت في مرحلة التجريب، وهكذا ظللت أتلقى اتصالات سخيفة كلها من شاكلة: ها، سامعني زين؟ وين أنت الحين؟ تغطية الشبكة عندك زينة؟ ما تحس أنها من علامات الساعة يا أبو الجعافر أنك شايل تلفون وتتكلم وأنت ماشي أو سايق السيارة! وبعد أسبوع انضممت مجددا إلى الغالبية الصامتة حيث أعدت إليهم جوّالهم وقلت لهم: الخدمة الجديدة مباركة عليكم بس ما تلزمنيش! وانتشر الجوال في الأودية والجبال، وحمله الشيبان والأطفال، وظللت رافضًا التعامل معه، وظل عيالي يحثونني على اقتنائه: كل الباباوات عندهم جوال... اشمعنى أنت؟ كان زملاؤهم يعايرونهم بأن أباهم لا يملك جوالا، وكانوا في الوقت نفسه يدركون أن السبيل الوحيد لامتلاك أي منهم لجوال، هو إقناع البابا جعفر الثاني بامتلاك واحد... ولكن الله حباني برأس ناشفة من نوع "يا جبل ما تهزك ريح!"، ثم تركت العمل في شركة الاتصالات القطرية وقدموا لي هدايا ثمينة للغاية، ومعها الفواتير التي تثبت ذلك، وما حدا بالشركة إلى الإقدام على تلك الخطوة الغريبة المتمثلة بتقديم فواتير الهدايا، مع أن الدارج هو أن تخفي سعر الهدية، هو انه سبق لي الاستقالة من الشركة عام 1994م عندما ذهبت إلى لندن للعمل جاسوسا في بي بي سي، فقدموا لي وقتها أيضا هدايا جميلة... وعند تقديم هدايا استقالتي الأخيرة قال لي مدير الشركة نرحب بك في صفوفنا مرة أخرى، إذا قررت العمل معنا مجددا، ولكن عليك أن تعيد إلينا قيمة هذه الهدايا لأننا مش فاضين نسوي لك حفلة ونعطيك هدايا كل كم سنة... المهم لأن الشركة التي فارقتها تعمل في مجال الاتصالات فقد كان بين الهدايا التي قدموها لي هاتف جوال مزود بشريحة اشتراك ثابت... كان ذلك قبل أقل من عام ونصف العام، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحمل الجوال... كنت في بادئ الأمر أتعمد "أن أنساه" في البيت أو المكتب، ولكن حدث ذات يوم أن تركته في السيارة، طوال ساعات العمل التي قضيت معظمها في اجتماعات خارج مكتبي، وظلت أم الجعافر تتصل بي على الجوال عشرات المرات، وبداهة فقد انزعجت لعدم ردي على مكالماتها، فقررت الاتصال بالمستشفيات والشرطة، ثم أجلت المسألة إلى حين إجراء مزيد من التحريات حول تحركاتي التي ربما تكون مشبوهة، واتصلت بـ"زولة" تعمل معنا في الشركة فأكدت لها أن أبا الجعافر كان حيا قبل ثلاث دقائق من تلقيها للمكالمة لأنها رأته يدخل قاعة اجتماعات، ومن يومها صدر مرسوم أم جعافري بأن أحمل الجوال في كل مكان بما في ذلك الحمام!.
وهكذا صار هذا الاختراع العجيب أداة تعذيب، لأن كل من "يريد" يستطيع اصطيادك على مدار الساعة أينما كنت، وإذا تجاهلت بعض المكالمات بالعمد أو السهو المتعمد، فلا سبيل لإنكار أنك تلقيت إشعارا بورودها، لأن الجوال السخيف الحشري يحتفظ بأرقام من اتصلوا بك، وحتى لو كان "دمك تقيل" ولم ترد على المكالمات التي تجاهلتها في بادئ الأمر، فإن الجماعة يبعثون إليك برسالة، ويقوم الجوال بتأكيد وصولها، وكما قلت مرارا فإن العيب الأساسي في الجوال هو أنه يجعل الناس كالموت يدركونك أينما كنت!! تخيل أن تكون في اجتماع مهم وتأتيك رسالة عبر الجوال: جيب معك كوسة وخيار وأنت راجع!! وهناك رسالة جوال تصلني بصفة منتظمة وإن تغيرت بعض مفرداتها: ممكن تجيني الساعة عشرة بدل ثمانية؟ هذه غالبا من أحد عيالي الذين أوصلهم إلى بيوت أصدقائهم ونتفق على أن أعيدهم الى البيت في ساعة معينة، فينسجم الواحد منهم في اللعب ويطالب بتمديد "الإقامة" عند الصديق!! كل ذلك أمره هين ولكن ماذا سنفعل مع الخواجات الذين لا يكفون عن الاختراع والابتكار، ففي الطريق الينا أجهزة ترصد مكان حامل الهاتف الجوال، يعني تستأذن من المدير وتقول له: رايح المستشفى الفلاني في شرق المدينة، وتعود بعد أربع ساعات أو في اليوم التالي ويقول لك المدير سلامتك، إن شاء الله النسكافي والكابتشينو نفعوا معك، وشالوا عنك المرض!! لا تتلجلج ولا تحاول أن تكحلها فتعميها بالزعم بأن الطبيب قرر أنك بحاجة إلى جراحة أو أعطاك عقاقير مهدئة لأن الأعباء الوظيفية سببت لك إجهادا نفسيا وعصبيا، لأن المدير يكون "مالي يده" وعرف باستخدام جهاز رصد الهاتف الجوال أنك كنت في منطقة تبعد عشرة كيلومترات عن أقرب مستشفى، حيث مقهى "كافيه كوفوكوفيه" الشهير، بل إن جهاز التجسس ذاك يحدد موقعك داخل مبنى الجهة التي تعمل لديها، فلا تستطيع أن تقول لرئيسك المباشر إنك قضيت ساعة في الحمام بينما هو يعرف أنك كنت في مكتب فنطوط أبو زعبوط لبحث توقعات نتيجة مباراة كرة القدم الحاسمة غدا!
ولكن وكما أن الخواجات يبتكرون ويخترعون أشياء توقعنا في مطبات محرجة، فإن ضمائرهم تستيقظ فيأتون بأشياء مريحة، ومن بينها هاتف جوال قامت بتطويره جامعة كارنيجي الأمريكية،.. هذا الهاتف "حساس" وعنده ذوق، وليس مثل بعض الناس الذين يوقظونك من النوم كي يقولوا لك وش لونك؟ أنت مالك ومال لوني؟ الهاتف الجديد يتولى "توزيع" المتصلين نيابة عنك، فإذا كنت تتكلم مع آخرين في البيت أو المكتب، وجاءتك مكالمة فإن الهاتف يتصرف من تلقاء ذاته ويقول للمتصل: خلي عندك دم واتصل لاحقا، والهاتف يعرف ما إذا كان صاحبه في حالة وقوف أو مشي أو جري فيقرر نيابة عنه استقبال أو رفض المكالمة،.. وسأكون في طليعة من يشترون هذا الهاتف وبعدها أتحدى كائنا من كان أن يتصل بي بعد التاسعة مساء أو قبل الخامسة ظهراً!!