تذكرون (هنادي هندي)؟ الفتاة القادمة من مكة والتي احتفى بها الإعلام كأول سعودية تطمح لأن تغدو طيّارة. (هنادي) أدهشتنا وقتها بتجاوزها للمعمعة التي علقت بها أخواتها المتحرقات لرخصة السيارة. (هنادي) حلّقت فوق الضجيج وقررت أن تنطلق في سماء أرحب. البعض سارع حتماً ليصنف الطيّارة الواعدة كأحد رموز المؤامرة ضد الثوابت والتقاليد. لكن الكثيرين أشاروا بثقة لصورتها والحجاب الذي يحتضن رأسها في إصرار تحت قبعة الكابتن.. هؤلاء هتفوا في ثقة: لا شيء ضد الثوابت هاهنا.. بوسعنا أن نتشرف بهذه الصورة.. إلى الأمام يا (هنادي).
لكن (هنادي)، و (شركة المملكة القابضة) التي تبنت مبادرتها الطموحة، قررا أن يقلبا الطاولة حتى في وجوه المتفائلين بـ (التغيير الراشد). يوم الأحد الفائت كان إعلان على امتداد صفحتين يبارك لهنادي حصولها على رخصة الطيران التجاري كأول كابتن سعودية تعمل على طائرات الشركة. لتطل علينا بابتسامتها الواثقة ذاتها.. وببزة الطيار الناصعة التي واجهتنا بها قبل أشهر.. لكن بشعر منسدل يُشقّره (الهايلايت).. ولا يستره حجاب هذه المرة!
ثمة ملاحظات تتجاوز التدخل المجرد في الشأن الشخصي لامرأة عاملة. والإعلان الفاره، الموجه أساساً لمجتمع تسوده (محافظة) سرعان ما تنقلب (تشدداً) حيال ما يتعلق بالمرأة، صُمم بشكل يخرج به عن إطاره الاحتفالي ليقيمه وسيلة للتحدي والاستفزاز.
الإعلان للغرابة يلعب على وتر الدين، إنما على نحو هزلي، كما فعل نابليون حين ارتدى الجبة والقفطان ليحاور شيوخ الأزهر. هو يبدأ بآية "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن".. وبحديث "النساء شقائق الرجال". ثم ينوه بدعم الشركة لعمل المرأة السعودية في جميع المجالات "ضمن تعاليم الشريعة الإسلامية". ويشيد بعد ذلك بـ (هنادي) ووالديها وبتربيتها الإسلامية الصالحة.. ليعيد التذكير لاحقاً بدور مجموعة (المملكة) في تحقيق أمنيتها "ضمن إطار ديننا الإسلامي السمح" ويختتم بدعوة مفتوحة لـ "الشابات السعوديات اللواتي يرغبن أن يكن كابتن طيار وفق تعاليم شريعتنا الإسلامية الغراء".
بالنسبة للقارئ القادم من خارج الإطار الفكري المحلي، فإن كم (التأسلم) الذي يحمله الإعلان قد يقوده لاستنتاج مفاده أن شركة (المملكة) لا ترغم طياريها على الإشراك بالله. أما القارئ المحافظ فالأمر بالنسبة له ليس سوى محض امتهان. والاستشهاد بكل الآيات والأحاديث سيفقد مغزاه الخطابي ليغدو وسيلة ابتذال في نظر الشريحة المتدينة الكاسحة التي تنسف صورة الطيّارة المتبرجة عندها أبسط الروابط مابين طرحيّ (المرأة) و (الإسلاموية).
هل يقصد الإعلان إذن شريحة أخرى خفية من السعوديين؟ أم أن (المملكة القابضة) يجدر بها أن تستقطب الآن مصممات إعلان أكثر ذكاء وفق الشريعة الإسلامية الغراء؟
الواقع أن مجموعة (المملكة) قد درجت على انتهاج خط مستقل في برنامجها لتنمية الموارد البشرية. هي قد أعلنت منذ فترة عن توظيفها للمخرجة (هيفاء المنصور) التي أثارت أعمالها لغطاً كثيراً قبل أشهر. كما أن المعروف عن جو العمل بشركاتها اتسامه بتحرر واختلاط بين الجنسين لا يمت بصلة للساري في باقي البلاد. والإعلان الأخير حول توظيف الكابتن (هنادي هندي) يشكل خطوة واسعة في صدد فرض نمط ثقافي حاد في مغايرته لكن يبدو واحداً من الأهداف الاستراتيجية للمجوعة ذات النشاط الاستثماري المتشعب كما يرى القائمون عليها.
الإعلان المذكور يبقى جملة وتفصيلاً صادماً للشريحة الأعرض من المتلقين ومرفوضاً من قبلها. كما أن لغته تحمل نبرة تعريضية بكل القيم التي يرى الكثيرون أنها في أصل (الخصوصية) الموسومة بالمجتمع السعودي.. وإن تمت صياغته على نحو يوظف أداة الدين. هو يلعب بورقة (هنادي) وغيرها، لينقض مثلاً هي من صميم التدين بداهة.
مهما كان الغرض الأصلي من وراءه، فإن إعلان الاحتفاء بـ (هنادي هندي) بالشكل الذي ظهر به صباح الأحد، لا يمثل أكثر من استهتار بالفكر المحافظ، ولا يقدم سوى المزيد من الحجج للمتذرعين بالمانع الشرعي في رفضهم للمزيد من الحريات للمرأة السعودية، وحتى لأولئك الأقل تشككاً في عواقب ثمة نقلة. أولئك الذين لم يرفضوا بدءاً أحلام (هنادي).. وربما طافت بأخيلتهم وقتها ذكرى (نيرين سالم) التي طردتها (مصر للطيران) بسبب حجابها. هم ربما تبسموا في غبطة حين قارنوها بحال (هنادي) حينئذ. ولعلهم شعروا بشيء من الزهو لأننا في هذه البلاد نرعى الأصول ونطبق التغيير (بحكمة).. ونبدأ دوماً من حيث انتهى الآخرون.
تلكم الابتسامات قلصها إعلان الأحد من على جميع الشفاه بلا شك.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية