لطالما شكّلت البعثات الدراسية أحد أهم أوجه علاقتنا بأميركا. وفي حين كان الهدف المعلن لتلك البعثات هو تزويد مواطني ممالك النفط النامية بالشهادات والخبرات الحديثة، فإن الدراسة بالخارج قد غدت كذلك بروتوكولاً تمارسه شرائح شتى أملاً في الارتقاء بوعيها الثقافي وقيمها الاجتماعية. تلك (الحجّات الأميركية) تركت بصمتها على أجيال من المبتعثين ناهيك عن أبنائهم وبناتهم الذين وُلدوا ونشأوا هناك قبل أن يعودوا لأوطانهم ليشكلوا ما عُرف بـ (أجيال البعثة). هذا التواصل الثقافي والاجتماعي لم يُكتب له أن يترك أثراً معتبراً في المشهد الأميركي على الرغم من استمراره طوال خمسة عقود. إذ كشفت أحداث السنوات الأخيرة عن جهل فاحش لدى الرأي العام الغربي بالشخصية السعودية تحديداً، على نحو يتصادم مع واقع تواجد عشرات الآلاف من مواطنينا هناك ذات يوم، وعلى نحو يرفع علامة استفهام كبيرة حول التراث الذي خلّفه أولئك طوال تلك السنين.
ثمة استثناءات خجلى لهذه الهامشية الثقافية الفادحة. قبل أسابيع نقلت الصحف خبر حصول الفتاة السعودية (خلود عبدالقادر حبيب الله) على جائزة مؤتمر المنظمة الدولية للشعراء الذي أقيم في (أورلاندو) متفوقة على ألفي متسابق جاؤوا من ستين بلداً.. وهي لم تبلغ الثامنة عشرة بعد! هذا الإنجاز الجميل لـ (خلود) وهي التي ولدت في أميركا لأب وأم كلاهما مبتعث حالياً، يذكر بـ (نعمة إسماعيل نواب) التي ولدت خارج الوطن كذلك وأتمت لتوها رحلة امتدت من الولايات المتحدة وحتى إندونيسيا لتتلو أبياتاً من ديوانها الشعري (المكاشفة) كأول عمل شعري سعودي بالإنجليزية يُنشر في أميركا على الإطلاق. الشاعرتان تشتركان كذلك في رفضهما القاطع لمحاولات توظيف إبداعاتهما من قبل الإعلام الأميركي كحالات تمرد على (القمع) الذي تشهده المرأة السعودية. واللافت هنا أن الاثنتين تشكلان كسراً لقاعدة الإنصهار الحضاري المقترنة بسُبة (التأمرك) والتي غالباً ما تبدو مظاهرها على أجيال ممن نشأوا في الغرب.. وسواهم. فالفتاتان كرستا اللغة والبيئة الثقافية ووظفتاهما للتعبير عن موروثهما الفكري والوجداني، ولممارسة (الدعوة) والتعريف بدينهما وحضارتهما عبر مسلك ثقافي نادراً ما تم التطرق له مُسخّرتين في سبيل ذلك ما تعلمتاه من قيم إيجابية للحضارة الغربية، بينما لا يتجاوز تأثر جمهور الشباب بقيم هذه الحضارة حد الـ (بندانة) و الـ (بارتي) و الـ (برغر) و الـ (هيب هوب).
منجزات (خلود حبيب الله) و (نعمة نواب) يفتحان أبواباً لأسئلة لا تنتهي.. فهل تمثل الفتاتان وأقرانهما وجهاً جديداً لعلاقتنا الثقافية بالغرب؟ وهل يجدر أن نوظف (رطانتهما) وكم القبول الذي تحظيان به لنعوض فشلنا في أن نرسي صورة مشرقة لحضارتنا على امتداد نصف قرن؟ وإذا اتفقنا على أن (الانضباط) و (القيادية) و (التفكير الإبداعي) هي مهارات وقيم تُدرس وتُمارس في الغرب بأفضل مما نحلم بها في أوطاننا، فهل يسعنا أن نعدها من أخلاقيات (غربية)؟ بل هل يسعنا أصلاً أن نتنازل ونقبل بثمة (تأمرك) أو (استغراب)كسمة إيجابية ووسيلة للدعوة والتواصل مع الآخر؟ وإذا كنا نقر بأن الدعوة الإسلامية هي دعوة عالمية، وبأن المهارات السالفة باتت مطلوبة للوصول لمنسوبي الحضارات الأخرى، أفلا يجدر بنا أن نهيء جيلاً من (الدعاة المتأمركين) القادرين على مخاطبة الآخر بلغته والتفكير بعقليته والإجابة على استفساراته؟
الهم الدعوي لم يكن يوماً غائباً عن الأجندة السعودية.. لا على النطاق الرسمي ولا على مستوى الأفراد المغتربين سواء كانوا طلاباً أو مرضى في المستشفيات. لكن التحديات الراهنة تتجاوز الجهود البسيطة المتمثلة في توزيع الأشرطة أو المصاحف المترجمة أو الإشراف على الكيفية التي يؤدي المسلمون في الغرب بها صلواتهم بدافع الإحساس بالوصاية على دين الله. وأزمة الهوية التي يعانيها مسلمو أميركا وسواها باتت أعمق من الخطب والمحاضرات التي يلقيها المشايخ الزائرون على أفراد الجاليات الإسلامية والتي لا تتطرق غالباً للتحديات الفقهية والفكرية التي يجابهونها هناك بل تقدم لهم فتاوى جاهزة صيغت لتلائم تفاصيل حياة تعاش على بعد آلاف الأميال عنهم.
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد تمخضت عن جعل السعودي رقماً ثابتا في المعادلة الإسلاموية من منظور الرأي العام الأميركي. والحاصل أننا كسعوديين لا يسعنا أن نتملص من موروثنا الديني الذي يفرضه علينا موقعنا كخدام للحرمين الشريفين.. لكن ينبغي علينا أن نعوض فشلنا عبر نصف قرن في تكوين مشهد ثقافي في العين الأميركية. ومع وجود آلاف السفراء المثقفين لنا في الغرب كله فإن علينا أن نلتفت للمهارات والخبرات التي يكتسبها هؤلاء ونشركهم في المشروع الدعوي لأنهم وسيلتنا في سلوك طرق في الحوار متنوعة بعيدة عن النسق التقليدي الذي لن يلتفت له سوانا. إن هؤلاء المتأمركين (أمركة إيجابية)، كأميركيين ومسلمين في الآن ذاته، والذين تمت رعاية مواهبهم في مدارس الغرب على مر العقود هم كنز ينبغي علينا الإفادة منه واستثماره قبل أن يعودوا يوماً ليأخذوا أماكنهم في مسيرة تنمية أوطانهم ويصبحوا جزءاً من المشكلة.. لا بعضاً من الحل.. كحال آلاف المبتعثين من قبلهم .. وهذا موضوع آخر.