"الشيخ عائض القرني ينكر كشف المرأة وجهها".. "القرني يقول بجواز كشف الوجه" .. "الدكتور عائض تراجع عن فتواه بكشف الوجه"..
هكذا كان المشهد أشبه بجولة تنس فقهية خلال الأيام الفائتة التي شهدت عرض فيلم تسجيلي بعنوان (نساء بلا ظل) في منزل قنصل الجمهورية الفرنسية بجدة. الفيلم هو من إخراج السيدة (هيفاء المنصور) التي بات يشار لها بالبنان كأول مخرجة سعودية برصيد بلغ الأعمال الأربعة حتى الآن مع كمٍ من الإشادة والتكريم في محافل عدة حول العالم.
رموز الثقافة والإعلام السعوديان احتفيا على استحياء بإنجازات المنصور السينمائية التي لم تتجاوز حتى وقت قريب بضع إفلام قصيرة أقرب للاسكتشات صور بعضها بكاميرات رقمية كانت مدة أطولها خمس عشرة دقيقة. ما فجّر شهرة هذه المخرجة في طول الشارع السعودي وعرضه كان فيلمها الوثائقي الأخير الذي تطرقت فيه لواقع المرأة السعودية عبر عدة أجيال من حيث مدى الحريات المتاحة لها في تعاملها مع أخيها الرجل وحركتها ضمن المجتمع في ظل الرؤى الفقهية السائدة. والجدل الذي أطلقه الفيلم لم يكن مرده للحبكة السينمائية ولا جودة السيناريو ولا تقنيات التصوير. بل إن موضوع الفيلم ذاته وموقع عرضه لم يثيرا من الضجيج قدر ما أثاره ظهور شخص الدكتور (عائض القرني) في بعض لقطاته مصرحاً بآراء فقهية معروفة تبيح للمرأة كشف وجهها وكفيها وتؤيد فكرة قيادتها للسيارة على العكس المقبول على الصعيدين الشرعي والاجتماعي بالبلاد. ويبلغ الفيلم ذروته الدرامية – في نظر المشهّرين به – حين يعرض مقطعاً صوتياً للشيخ ذاته قبل سنين يهاجم فيه كل من تكشف وجهها ويصف المرأة بمسببة الفتن في تناقض ظاهري مع الرأي الأرحب الذي كان قد قال به باللقطات السابقة.
في حين تلقف البعض الحدث كدليل على مناقضة المؤسسة الدينية الرسمية التي يمثل الشيخ القرني أحد وجوهها لنفسها، فإن التيار المحافظ الذي يشكل أغلبية المجتمع الساحقة قد أبدى امتعاضه من الفيلم لسببين كما تظهر ردود الأفعال على صفحات الجرائد ومنتديات الإنترنت. أولهما كون المخرجة التي تمت استضافتها مراراً عبر وسائل الإعلام السعودية، رسمية وسواها، امرأة غير مُحجّبة مما يشكل مظهراً صادماً للرافضين للتبرج، ويرفع حاجزاً سميكاً بينها وبين القطاع الأعرض من المتلقين. المبرر الآخر لرفض (نساء بلا ظل) كان أسلوبه في تصوير أحد مشائخ الصحوة بمظهر البراغماتي المخادع بالرغم من أن الرجل قد صرح لاحقاً بحقيقة علمية مفادها أن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال واستشهد بمواقف بعض أصحاب المذاهب الفقهية. ومع وجود الاحتمال في أن يكون الأمر سوءاً لفهم موقف المخرجة التي أرادت من هذا التضارب الظاهري تعزيز القيمة التوثيقية لعملها، إلا أن الحاصل أن الشيخ عائض قد اعتبر أنه قد خُدع من قبل هيفاء المنصور.
لكن المفاجأة الأكبر إطلاقاً كانت في موقف وجوه التيار الديني الذين لم يواجهوا المخرجة برأيهم في ظهورها حاسرة الرأس في مناسبة تلو الأخرى مثلاً.. ولم ينتقدوا موقفها المريب في قبول تبني قنصلية أجنبية لعملها الفني (المتمرد) في استعادة لتراث الوصاية الاستعمارية.. ولم يوجهوا جام غضبهم كالعادة للقائمين على الإعلام الذين كرسوا الظهور تلو الآخر لهيفاء المنصور بتسريحات شعر مختلفة. الموقف شبه الرسمي للمؤسسة الدينية كان للغرابة مركزاً على توجيه اللوم لعائض القرني نفسه بسبب تجرؤه على التفوه بما يبيح للمرأة أن تكشف عن وجهها، وهو ما يخالف الرأي الرسمي السائد، لكنه يوافق في الوقت نفسها ممارسات ملايين النسوة في هذه البلاد ذاتها ممن يأخذن بآراء مدارس فقهية أخرى تضم كل واحد من أئمة السُنّة الأربعة الأشهر!
هكذا بكل أسى تم الالتفاف حول هذه الفرصة الذهبية لنتواجه مع أنفسنا بلا أقنعة ولا أقفال على العقول والأعين، ولنزيل اللبس والازدواجية اللذان يلفان كثيراً من ممارساتنا وأفكارنا في هذا الموسم الذي تروج فيه أسواق (الحوار الوطني) و (التصارح مع الذات) و (فكر الوسطية). إن أصحاب الفضيلة المشايخ الذين لم يتكلفوا عناء الرد على ما جاء في الفيلم التسجيلي بشكل موضوعي وعلى الأقل من باب دفع الحجة بالحجة، بل ضغطوا على (عائض القرني) حتى تراجع أخيرا عن (فتواه) العتيدة وتملص منها وكأنها وصمة عار في تاريخه الدعوي العريض الذي أمّل أن يعدل بعض فصـوله عبـر الفيلــم المذكور، هـؤلاء المشــايـخ قد عززوا من حيث لا يدرون رأى كل من يزعم بأن فقه هذا البلد فقه متطرف، وأن فقهاءه منغلقون غير معنيين بمجابهة الآخر المختلف. وهم قد أوحوا للغير بأن سفارات فرنسا وانجلترا والبرازيل باتت تمثل موائل لكل من يمتلك صوتاً مخالفاً لا يجرؤ على إطلاقه علناً فيما نروج نحن لدعاية الإسلام دين (الحريات). كما يُخشى أنهم قد أعطوا بشكل أو بآخر انطباعاً ربما لا يصح بأنهم يمثلون فكراً لا يقوم على أسس ثابتة لدرجة تدفع أتباعه للتلاوم والتنازع إذا ما شذ أحدهم عن السائد ولو برأي مرجوح.
بغض النظر عن القيمة الفنية لفيلم السيدة (هيفاء المنصور) فإن موقف السادة المشائخ قد قدم دعاية ذهبية لفكرها ولخطابها الثقافي كما تشهد العروض الفنية التي تتوالى عليها مع توالي أحداث هذه القصة. وموقفهم من الشيخ (عائض) كرسّ مع الأسف الصفة القسرية الإقصائية التي ترعى الدولة المؤتمرات وتنظم الحوارات لتنفيها عن مؤسساتنا الدينية. هو موقف لن نستغرب لو استغله البعض لا ليثبت أن رؤية (هيفاء المنصور) لنساء مقسورات موجهات بلا ظل صحيحة وواقعية فحسب .. بل وليمدها ويعممها لتشمل كثيراً من الرجال كذلك.