تذكرون (بشّار)، فتى النحل (الكارتوني) الذي أمضينا ردحاً من صبانا نتابع مغامراته في رحلة البحث عن أمه؟ حسنٌ.. قناة (المجد) للأطفال أعادت دبلجة ذات الحلقات لتقدمها بطابع مختلف نوعاً. والراوي في نهاية الحلقة لا يحث (بشّار) على البحث عن والدته كما تعودنا.. لكنه يُنوه بصراعه ورفاقه ضد قوى (الطاغوت). غرائبيات قناة أطفال المجد، التي تقدم نفسها كخيار للأسرة العربية، تتنوع بين شريط الرسائل المُذكِّر بالموت والقبر، إلى الكهل الأربعيني الذي يستفتح لقائه بالمشاركين الصغار هاتفاً: “لللا لالالا ترللا”!
لكن القناة وشقيقاتها اللاتي يلزمن خطاً يحظر أي نوع من المؤثرات الموسيقية أو الصوتية ماخلا الصوت البشري المطعم بالآهات والهمهمات السمجة، تحظى في الواقع برواج بين قطاع من المتلقين يجد فيها البديل الأوحد للبث الفضائي برمته.. وهو ما يلخص أزمة النسق الإعلامي الذي اصطلح على تسميته بـ (الهادف).
إذ لطالما مثّل الإعلام المرئي ميدان تخلف أصيلاً على المستوى العربي عامة. ومع إحكام الحكومات قبضاتها على منافذ الظهور التلفازية حتى وقت قريب، فإن الخطاب (الهادف) بكل مذاهبه ركَّز على القنوات المقروءة والمسموعة كوسائل انتشار.. خاصة مع وجود تحفظات عميقة على الصورة المتلفزة ذاتها لدى بعض المدارس الفكرية.
لكن البث الفضائي جاء ليقلب موازين عدة. وفي حين تشبث الكثيرون بموقف رافض للّواقط الفضائية بوصفها أداة أخرى في ترسانة (الفساد)، كان آخرون يركبون الموجة ويعبقون الأثير بما بجبعتهم من غث وسمين. وحين أفاق أرباب الفكر (الهادف) للواقع الذي فرض نفسه، كانوا متأخرين جداً عن الركب.. وكان عليهم أن يهرعوا ليُسمعوا صوتهم، ويقدموا لمريديهم البديل، ويثأروا لفترة التهميش التي حبسوا أنفسهم بها.
إعلام الأطفال المُوجَّه، والمختص بصفة “الهادف” بالذات، تتمثل مشكلته في أنه واقع تحت ظل بعبع (التغريب). وهو هاجس ملأ (التربويون الهادفون) الدنيا به ضجيجاً وجعلوه في صلب قضيتهم، لتأتي (مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي) وتعيد تقديم قصة الفنان (هاياو مايازاكي) تحت اسم (عدنان ولينا). فيما سبقتها الـ LBC لتحفر أسطورة (غراندايزر) في وجدان جيل عربي بأكمله. وأمام مد الدبلجة المتوالي كان على (الهادفين) أن يعيدوا الاعتبار لطرحهم الذي زعزعه كثيراً إهدار دم (البوكيمون بيكاتشو)، ويقدموا للنشء فكرتهم عن الترفيه التلفزيوني (الخَيِّر)، ليصطدموا عندها بحواجز فكرهم ذاته المتأزم مع الرسم والنغمة والإيقاع ومع كامل مفردات العمل (الكارتوني)، بما فيها شخوص الأفراد المرتبطين به. الاجتهادات الخارجية لتقديم (الحل الإسلامي) الكارتوني واجهت الرفض لذات الأسباب إلى أن وجد القائمون على القضية وسائل للالتفاف حول كل محاذيرهم لتكون النتيجة عملاً (مؤدلجاً).. متوافقاً مع شروط النظرية لكنه فاقد للروح الاحترافية وللأصالة.
هذه العلات تنسحب كذلك على المُنتَج الإعلامي الموجه للكبار والمدفوع هو الآخر بهاجس (البديل الهادف) ليتمخض عن نُسخ مهجنة لا تقدم جديداً وتفتقد للكثير من عوامل الجذب.. مما يُفقد التيار كثيراً من المقاعد في نهاية المطاف!
طالما يضع القائمون على الإعلام الإسلامي أنفسهم في مقام المُدافع والمطالَب بتقديم الرد على كل مُنتَج (مضاد)، وطالما يتحركون ضمن عالم من المحاذير هو من صنع أدبياتهم الذاتية، فإن خطابهم (التنويري الهادف) سوف لن يصل لأي مراتب تنافسية. موقف قنوات الإعلام الهادف من منافسيها أوقعها كذلك في مطب (الإقصائية). فحتى الأسماء الأخرى على الساحة كـ (إقرأ) و (المنار) – وإن بدرجة أقل- تكاد تكون مغلقة على وجوه تياراتها. وهو مالا يخدم بدءاً الغرض الإعلامي لهذه القنوات، كما يُبقي الكرة في ملعب الجهات (الأخرى) التي تتعمد استضافة الأسماء من هنا وهناك من باب ذر الرماد في العيون على الأقل.. وهو مالا يعني فيما يبدو أرباب الإعلام الهادف الذين يمارسون إقصائية فيما بينهم تظهر آثارها أحياناً في مقدم برامج يتم الاستغناء عن خدماته على خلفية استضافته لضيف تحيط بتوجهاته (تحفظات ما)؛ ما يصب في مصلحة المناوئين للصبغة الإسلاموية للإعلام التي تنزع عنه حياديته.
الإعلام الإسلامي الهادف يحتاج لأن يخلق لنفسه فروقاً عن سواه تتجاوز هموم مباحات أدبياته ومحظوراته لينطلق من قضية الحرية أساسًا. وأن يتجاوز صيغته الدعوية الخطابية بكل جمودها الحاضر ليقتحم مجالات الدراما والأخبار ويكسب قاعد أعرض. وإذا كان الإعلام الغربي يخرج في ساحة حرة سياسيًّا وفكريًّا، فإن الإعلام الإسلامي ينتظره الكثير في هذا الصدد قبل أن يفرض نفسه كبيدل.
قدرة الإعلام (الهادف) ينبغي أن تتجلى في بناء الشخصية التي تقبل وترفض عوضاً عن أن تكون مجرد صفحة يملك الآخرون أن يكتبوا فيها ما يشاؤون. وفي تواصله مع مختلف الشرائح والأذواق بدلاً من أن يتلبس بلباس جماهيري خادع ثم يفرض على كل المتلقين برامج تم (تفصيلها) لتحوز على رضى فئة بعينها منهم.