*عندما اندلعت أحداث الشغب في باريس أواخر 2005، صرّح وزير الخارجية الفرنسي (ساركوزي) وقتها بأن تصرفات "الرعاع" هذه لا تعكس القيَّم الفرنسية. هذا التصريح المضحك ذكّرنا بالسيناتور (جوزيف مكارثي) الذي شن حملة بوليسية شعواء في خمسينات القرن الماضي على المشتبه بتعاطفهم مع الشيوعية على أساس أن ذلك يمثل ممارسة غير أميركية!*

 


*اليوم تثور ضجة حول الفتيات المتشحات بالأخضر، اللواتي ظهرن ضمن مشجعي المنتخب السعودي في بطولة الخليج الأخيرة. الضجة كان يمكن أن تُبنى على مبررات منطقية كثيرة.. لكن تياراً عريضاً من الرافضين لهذا (المنظر) بنى طرحه على ذات الأساس الكوميدي. هؤلاء رفضوا أن تصبغ الفتيات وجوههن بالأخضر وتتقافزن تفاعلاً مع الأهداف والهجمات المرتدة على أساس أن هذه كلها هي أفعال.. غير سعودية!*


*كاريكاتورية الحالة تطورت أكثر من ظهور أصوات تؤكد أن تلكم الفتيات لا يمكن أن يكن من حَملة الجنسية السعودية.. بل هن إما مشجعات أجنبيات اخترن –عرَضاً- جانب منتخبنا الوطني.. أو هن "مستأجرات" جيء بهن عنوة لخدمة أهداف تتجاوز مجرد تشتيت انتباه الخصم في المنافسة الرياضية (!!)*


*من ذا الذي جنَّس الأفعال؟ *

*أليس مبتذلاً أن تُصنف الأخلاق والممارسات وفقاً لورودها عبر امتداد جغرافي معين.. مثلها مثل المنتوجات الاستهلاكية وقطعان الماشية.. قبل أن توزن وفق معايير الصواب والخطأ.. حتى مع وجود اتفاق ضمني على كونها خاطئة؟!*


*بطولة الخليج هذه التي كانت مدرّجاتها مسرحاً لـ (الظاهرة) مدار الجدل.. هي مناسبة رياضية كرستها أساساً رغبة أبناء الخليج في الاحتفاء بعاداتهم وتراثهم ونفطهم المشترك. لكن الواقع يؤكد أن إلقاء أنساب تلكم المشجعات المتلفعات بالأخضر على أي من البلدان السبع الأخرى التي تشارك منتخباتها في البطولة كان سيطفئ هذه الضجة وكأنها لم تكن أصلاً. كان سيخدر كل حساسيتنا كـ (سعوديين) تجاه المحارم والأخلاق والشرف الرفيع المنزه عن الأذى. وهو وضع جد غريب لا يخلو من التعريض بالأخوة والأشقاء في الخليج.. كما أنه وضع لا يمكن الركون إلى حسميته. لاسيما وحدودنا الجغرافية لم ترسّم تماماً مع عدد من هذه الدول الشقيقة مدار الذكر!*


*منتديات الإنترنت شهدت كالعادة نصيباً وافراً من اللغط حول هذه المسألة.. وهو ما يعود بنا للموضوع الذي تناولناه هنا الأسبوع الماضي. عن دور الإنترنت في صياغة الواقع العربي وفي خلق رأيه العام. حينها قلنا بأن الإنترنت عوضاً عن أن يوسع من آفاق المواطن العربي ويزيد من تواصله مع ما ومَن حوله.. فإنه بات يعكس مدى قصور هذا المواطن عن الإلمام بكامل صورة بيئته ذاتها. وقصة المشجعات السعوديات تصب تماماً في هذا المجرى. فكتّاب الرأي الإلكتروني المحلي، وبعدما نصبوا أنفسهم مؤرخين للمرحلة ومتحدثين باسم الشعب، ما تزال بضعة مشاهد منقولة على الهواء مباشرة كفيلة بزعزعة الصورة النمطية التي يحملونها عن العالم من حولهم. وهو ما تعكسه لغتهم المفجوعة بالمنظر في المدرجات.. والمتكرر أصلاً حد الاعتياد بصور شتى تتجاوز غالباً الصبغة محض (الرياضية) التي شاهدوه بها. هذا الخطاب الإنترنتي وإن كان مبنياً على أساس سليم شرعاً وعرفاً.. إلا أنه قُدَّم بلهجة غير واقعية ضائعة.. ومضحكة. ووفر في الآن ذاته بيئة للقيح النعروي المناطقي كي ينمو وينتشر.. ما لم يكن في صالح أصحاب نوايا الإصلاح الحسنة.. ولا المجتمع الإلكتروني عموماً.*


*لنعد على كلٍ لتلك الجملة غير المفيدة.. حول كون فعل ما "غير سعودي". فاعتماد ثمة تركيبة لغوية يقتضي الإقرار –بالمقابل- بوجود أفعال منتمية لجنسيات أخرى ومقصورة عليها. أفعال سويسرية وتنزانية وممارسات أوزباكستانية وباراغوانية (نسبة للباراغواي.. في أميركا الجنوبية).. وهو سرد كفيل بإيضاح مدى سخافة هذا الطرح.. من جهة.*


*ومن جهة أخرى، ولأن لكل فعل ردة فعل، فإن الحديث عن فعل ما غير سعودي يقتضي –أيضاً- أن نتحدث عن قائمة (الأفعال السعودية) التي نعرفها. علينا أن نتساءل..من منطلق حرصنا الواضح على التنزه حتى عن الأفعال الغير لائقة بنا.. أن نتساءل عن تلك الأفعال الملتصقة بنا. تلك التي لا يُذكر مواطننا إلا وتذكر معه.. وبالعكس.*


*هل يُعد (الإنجاز) مثلاً فعلاً سعودياً؟ ماذا عن الدقة في المواعيد؟ احترام النظام؟ هل يمثل كل من (الإبداع) و (الانضباط) سمات سعودية أساسية؟*


*هل يعد الفوز بجائزة (نوبل) أو بكأس العالم مثلاً شيئاً سعودياً؟ وإذا لم يكن كذلك فهل لنا أن ننكره ونتبرأ منه.. ننسبه للمنتحلين والمتجنسين فيما لو حصل؟*

*التأخر في دفع رواتب العمال والمستقدمين هل هو فعل سعودي؟ ضرب الزوجات؟ الحفاظ على نظافة الشوارع والمتنزهات؟ الاعتداء على القُصّر؟ *


*هل تعد الشركة التي تحرص على خدمة عملائها، شركة سعودية؟ ماذا عن الشركة التي تنهي المشروع وفق الجدول الزمني المتفق عليه؟ مؤخراً تواترت الأنباء عن إمام مسجد رفض أن يصلي على ميت لأنه تناهى لعلمه أن الراحل كان مفرطاً في صلواته..هل يبدو هذا فعلاً سعودياً؟*


*هذه المقالة ستقدم للمطبعة قبل ساعات من مباراة منتخبنا الوطني مع شقيقه الإماراتي. وهي مباراة ينتظرها الجميع ليس فقط لمتابعة اللعب والنتيجة.. فيما يبدو. وبغض النظر عن نتيجة المباراة وتعداد الجمهور الذي سيتابعها في الملعب..  بما فيه من فتياتنا السعوديات اللواتي تكتظ بهن كليات دبي والشارقة وهيوستن.. ومنتجعات فاريا وسويسرا.. و (كبائن) شرم الشيخ وبينانج. بغض النظر عن ذلك كله فإننا يجب أن نتذكر أن الخطاب الإصلاحي يجب ألا يخرج عن معناه الأساسي ليحول أصحابه إلى أضحوكات غارقة في الوهم وهاجس المؤامرة، ويتحول بقضيته إلى محاولة لاختراع إعراب جديد للفعل في اللغة، أو يتبرأ من مواطنيه فقط كي يثبت وجهة نظر..مهما بدت أصيلة في ظاهرها.*

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية