إن كنت والداً، وإن كنت من أولئك المهتمين بنظريات التربية أو قلقاً على المنحى الذي تنشأ عبره ذريتك، فإنك ولاشك ستتوقف أمام سيل شخصيات الأبطال الخياليين الذين يعاد بعثهم هذه الأيام. أولئك الرجال والنساء متكاملي الخلقة خارقي القوى والساعين لإقامة العدالة ودحر الظلم في عوالم مفعمة بالشرّ.. وبالأعلام الأميركية أيضاً! قصتنا مع الأبطال من عينة (سوبرمان) و (باتمان) ليست وليدة اليوم. لكن فيما كبرنا نحن و تجاوزنا المرحلة (كما يفترض).. فإن هذه الشخصيات تزداد انتعاشاً وتغلغلاً في الثقافة الجمعية. واليوم بالذات توفر تقنيات التجسيد الباهرة بالسينما وألعاب الكمبيوتر.. ناهيك عن عوالم المجلات المصورة والألعاب وسواها.. يوفر كل ذلك أجواءاً غير مسبوقة لترسيخ نفوذ هذه الشخوص. الأسئلة التي لم تنقطع أبداً عبر أجيال الآباء والأمهات المتعاقبين على هذه الظاهرة هي ذاتها: "هل يصح أن يتشح ابني بالشماغ مقلداً الرجل الخارق؟" و "كيف أقنع ابنتي بأن (المرأة الوطواط) ليست هي القدوة الأمثل لها؟".
في بيئتنا العربية الغارقة بهاجس الاعتداد وبحس المؤامرة كذلك كانت هذه الشخصيات المصورة ملعونة بقدر ما هو الشيطان. والمبرر في هذا الكُره الأعمى كان واضحاً.. فهذه القصص تعكس عموماً قيماً وأفكاراً متناقضة مع ما عندنا. ليس لإغراقها في النمط (الغربي) وحسب.. ولكن أيضاً لاختلاف تعريفها لمبادئ الخير والشر.. ولتطرقها لمسائل عويصة من قبيل مبرر وجود الإنسان وماهية القوة العظمى المتحكمة في مسار الكون. لكن المدهش أيضاً أن الأزمنة الماضية شهدت حركات ترجمة محمومة لمثل هذه القصص تعرفت من خلالها الأجيال العربية على أبطال هذه العوالم الخيالية وتأثرت بها ولاشك.
أمثلة الأبطال التخيليين الواردة أعلاه لم تكن ممقوتة عبر النطاق العربي وحسب. النمط الذي يقدمه (البطل الخارق) أو الـ (Super Hero) يبقى عموماً ذا قالب أميركي فج. الثقافات الأخرى كانت لها مساهمات في هذا الصدد جاءت إما كردّات فعل مضادة للاختراق الأميركي.. وإما كإبداعات فنية أصيلة. بلجيكا مثلاً قدمت (تان تان).. والقائمة تطول. وبالرغم من أن عصر الشخصيات المصورة الذهبي هذا قد ولى منذ أربعينات القرن الماضي.. ومع أن حركات الترجمة والدبلجة العربية قد شهدت تدهوراً شنيعاً على هذا الصعيد بالذات منذ الثمانينات الميلادية.. إلا أن ناشئتنا ما زالوا يعانون ذات الإشكالية: تعلق متزايد بهذه العوالم الفانتازية.. وغياب شبه كامل للبديل المحلي الأصيل.
الحديث عن بديل (شرقي) لشخصية البطل الخارق ما فتئ يتكرر كضرورة تربوية وقومية ملحّة. لكن المتأمل في حال المنظومة الثقافية والفكرية العربية لا يسعه إلا أن يتوقع مزيداً من الفشل لهذا المشروع.
التصور العربي لحقيقة هذا الطرح تصوره ببلاغة ترجمتنا للكلمة (Comics).. أدبياتنا تسميها رسوماً "هزلية"! وهكذا فمهما حفلت قصص الـ (Comics) الأجنبية هذه بالعضلات وبلقطات الإثارة والدماء أوحتى بالقيم التربوية والحقائق العلمية.. فإنها تبقى.. وفق الترجمة العربية الرصينة.. رسوماً (هزلية).
هذا الهزل يمتد ليطال التصور الشعبي للمشتغلين بثمة هم. جزء كبير مع الإشكالية المطروحة هنا هو في نظرتنا للفن ككل. وفي تحجير المؤسسات الثقافية ودور النشر لتعاريف هذا الفن.
هل يمكن أن نوسع نطاق أزمتنا مع (الرسوم الهزلية) لندخلها ضمن أزمتنا مع (القَصّ) عموماً؟ لأن المتابع للدراسات في أصول القصة العربية سيمر بلا شك بتيمات من قبيل (الزير سالم) و (عنترة). هؤلاء ألا يشكلون بدورهم (هزلاً) عربياً أصيلاً وفق التعريف المعاصر للقصة المصورة.. بأكثر مما ينتمون للسياق القصصي (الجاد) كما نعرفه اليوم؟
هذه القطيعة بين زمانين للإبداع العربي تحتاج لما يبررها. كثيرون يصرون على أن ظروف القصة المصورة في الغرب لا يصح تعميمها على الحالة العربية. وأن تعلق المتلقي الغربي بأبطاله الخارقين له أصول اجتماعية واقتصادية غير متوفرة في البيئة العربية. هذا الكلام بقدر ما يبدو علمياً ومنطقياً إلا أنه لا يبرر تعلق الأجيال العربية المتعاقبة بذات الأبطال الخارقين الذين أنجبتهم قرائح فناني الغرب. ولا يبرر النجاح الباهر الذي صادَفته بضع محاولات أصيلة لتخليق شخصية عربية خيالية.. كاستجابة طبيعية لحاجة المخيلة البشرية لما يحركها ويغذيها.
نحن ما زلنا بانتظار مخلّص خارق إذاً.. حتى لو كان مسطحاً متحركاً عبر حيّز الصفحة أو الشاشة. كثير منا ما يزالون يترحمون على أيام (افتح يا سمسم) و الـ (دوق فليد).. آخرون يأملون في شخصيات أقل سذاجة وأقل إغراقاً في الخيال. شخصيات عربية أكثر معاصرة وأقرب لعقول ونفوس جيل الثقافة الإلكترونية المفعمة بالديناميكية وقيم الحداثة. وحتى ذلك الحين. فسيظل أبناؤنا وبناتنا.. وسنظل نحن معهم.. مبهورين بشقلبات (الرجل العنكبوت) وبجسارة فؤاد (الباتمان).