شكّ أنّ الحكام العرب قد لعبوا أدوارا مصيريّة وعملاقة في تكريس التخلفّ الذي يلفّ الحالة العربية الراهنة و الذي سيستمّر مميزا لها في المدى المتوسط وربما البعيد ما لم تنتف مبررات التخلّف , والحاكم العربي عندما وصل إلى سدّة صناعة القرار بفضل الإنقلاب والدبابة و المؤامرة لم يكن من جملة تخطيطه أن ينهض بالأمة , بل قصارى ما كان يحلم به أن يجمع الدنيا من أطرافها وقد تحققّ ذلك لمعظم حكامنا الذي يطالبون زورا وبهتانا بضرورة إحترام إرادة الجماهير وهم فرضوا أنفسهم على هؤلاء الجماهير بالحديد والنار. وإذا كان الحاكم العربي قد نال ما يستحّق من لعنات من قبل البسطاء والمثقفين على حدّ سواء , و توافقت الآراء على دوره المركزي في إرباك الأمة و أخذها إلى الهاوية , فإنّ النخب المثقفة العربية تأتي في المرتبة الثانية لجهة تحملها مسؤوليّة ضياع هذه الأمة التي أصبحت أتعس أمة أخرجت للناس بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس .
و مشكلة الإنتليجانسيا العربية بمختلف مشاربها الفكرية والإيديولوجية أنّها دخلت في حروب أهلية فيما بينها إنعكست سلبا على عقول الناس الذين توزعت رؤاهم وتصوراتهم بين ما تراه هذه النخبة وتلك , و قد أتاح هذا الإنشطار الفكري للغير المتربصّ بمواقعنا وحصوننا أن يلج إلينا بأبسط الوسائل , فالقومي كان يصّر أن لا خلاص للعالم العربي إلاّ بالقوميّة , و الرأسمالي الليبيرالي كان يصر أن لا خلاص لهذا العالم العربي إلاّ بالليبيرالية بشقيها المعتدل والمتوحّش , والشيوعي يرى أن طريق المجد هو عبر إعتناق الشيوعية التي ما زال بعض الرفاق يعتقدون بجدواها الحضارية و أنّ الذي سقط هو النظام الشيوعي لا الإيديولوجيا الشيوعية , و الديموقراطي يرى أنّ الخلاص لن يتأتى إلاّ بإعتناق الديموقراطية بمفهومها الغربي وذلك يتطلبّ القفز على العادات و التقاليد في مجتمعاتنا البدائيّة كما يسمونها , و الإسلامي السني يرى أن لا مخرج من واقع التخلّف إلا بالرجوع إلى ثرات السلف الصالح من هذه الأمة , و الإسلامي الشيعي يرى أنّ الخلاص يكمن أيضا في العض بالنواجذ على الرؤية الإسلامية كما صاغها الإمام علي عليه السلام , وكل مدرسة فكرية و طائفة دينية و مجموعة أيديولوجية تقدم عشرات التبريرات و الأسباب والبراهين للتأكيد على إستقامة منطلقاتها وجدواها في الواقع المعيش , ومن الظلم بمكان إتهام بعض الإسلاميين بأنّهم وراء أزمة التكفير , فلطالما كفرّ الشيوعي الإسلامي و طبق عليه القصاص وحاسبه على لحيته وجلبابه , و لطالما كفر دعاة المجتمع المدني و الديموقراطي الإسلامي وفتحوا سجونهم للإسلاميين وفي أحيان كثيرة بدون ذنب ولا جريرة , وقد صرحّ الرئيس الجزائر ي الراحل محمد بوضياف لدى عودته من منفاه في المغرب إلى الجزائر : أنّ الديموقراطية تجيز لي إعتقال عشرين ألف من الإسلاميين الجزائريين والزجّ بهم في السجون , وأسميت عندها الديموقراطية الجزائرية و التونسية والموريتانية والمغربية و الليبية وغيرها بالديموعسكريتاريا .
وقد إختلفت هذه النخب في كل التفاصيل , في البديهيات كما في المسلمّات , في التفاصيل كما في الجزئيات , في الأصول كما في الفروع , في المقدمّات كما في النتائج .
و كل نخبة أصبح لديها مشروعها ورؤيتها و إستراتيجيتها إذا كان لديها إستراتيجية , ومن سنخ هذه النخب نشأت حكومات كانت تلعن بمجرد تأسيسها عمل الحكومات السابقة وتعيد صياغة المشروع الحكومي في بعديّه السياسي والإقتصادي من جديد .
ووصل الإختلاف بين نخبنا إلى عمق البديهيات , ولعلّ ذروة الإختلاف تجلّت في المشهد العراقي حيث إعتبرت نخبة عراقية أنّ الإحتلال الأمريكي للعراق جائز ومسوّغ بإعتباره أزاح طاغية مستبّدا عن حكم العراق وهذا وحده كاف ولا داعي للحديث في النتائج , فيما رأت نخب أخرى أنّ هذا الإحتلال غير مقبول ومرفوض جملة وتفصيلا , فردّ عليهم الفريق الأوّل بأنّ الأمر لا يعنيكم والعراق للعراقيين , وردّ الفريق الثاني بأنّ وجود أمريكا في العراق سيؤثّر علينا في سوريا ولبنان وإيران وبقية المحيط العربي و الإسلامي , وعندها ردّ الفريق الأوّل على الفريق الثاني أن لعنة الله عليكم يا عملاء صدّام , و عقبّ الفريق الثاني على الأول بقوله وألف لعنة عليكم يا عملاء أمريكا ونتاج عمليات الإستنساخ في أوكار وكالة الإستخبارات الأمريكية .
وفي الوقت الذي دخلت فيه هذه النخب في ملاعنة حقيقية فيما بينها , أخذت أمريكا تستحكم خطتها وتفعّل مشروعها من جهة ومن جهة أخرى فقدت هذه النخب وقارها الثقافي بإعتبار أنّ العقل الخرّاق كما كان يسميه المعتزلة يجب أن يستوعب كل الأفكار و الرؤى .
ولن يتأتى لنا صناعة فعل نهضوي حقيقي إلاّ إذا توافقنا على أنّ الفرد للمجموع والمجموع للفرد , وأنّ النخب كلها تكمّل بعضها بعضا وأن تلاقح الأفكار وإختلافها سنّة كونية وحضارية , وقد سئل أحد الصالحين لماذا خلق الله الإنسان الأبيض والأسود فقال : حتى لا ينسب العجز لله تعالى , و من سمات العقل البشري القدرة على الإختلاف والإئتلاف , ولا يجب أن نجعل من إختلافنا خندقا لحروب كثيرا ما أفضت إلى حروب أهلية حقيقية , ألم تبدأ الحرب الأهلية اللبنانية على صفحات الجرائد بين الكتاب والمثقفين !
ألم تبدأ حرب الجزائر على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة !
فلنجعل من الثقافة وسيلة للبناء لا الحرب , و عيب علينا أن ندعي الرقيّ بعقولنا و نحن أدنى بذلك بكثير !!