من الملاحظ على الأمة العربية والإسلامية أنها تفتخر بالماضي في أشعارها وخطبها وصحفها ومناسباتها القومية، وهو أمر طيب، بيد أنه صار خير وسيلة للهروب من واقعنا المزري وأزمتنا الحضارية أن نتحدث عن الماضي، فنقول للغرب وهو يسومنا سوء العذاب: نحن الذين علمناك في الأندلس وصقلية، وجلبنا لك عصارة الفكر البشري وخلاصة الحضارات، ووضعناها بين يديك لتنطلق منها نحو التقدم والمدنية، نحن الذين جئنا بحقوق الإنسان قبل أن تنص عليها الأمم المتحدة، نحن الذي اختارنا الله لإنقاذ البشرية.. نعيش في الماضي متكلين على أصالة الأنساب وبطولة الأجداد وكأننا لم نقرأ يوما قول الشاعر ابن الوردي:
لا تقلْ أصلي وفصلي أبداً إنما أصلُ الفتى ما قد حصلْ واقعنا كأمة مزر أيما إزراء، فإذا كان المتنبي يرى أن هذه الأمة صارت مضحكة الأمم في القرن الرابع الهجري عندما جعلت الدين صورة شكلية في حياتها وليس مضموناً إنسانياً تعبوياً لطاقات الأمة، فقال:
أغايةُ الدينِ أن تحفوا شواربَكــــمْ
يا أمةًًً ضحكتْ من جهلِها الأممُ
علما بأن الأمة كانت في أوج نهضتها الحضارية في القرن الرابع الهجري، فماذا عساه يقول لو كان حياً بيننا، وهو يرى أننا أقل الأمم نمواً حضارياً وفكرياًً وثقافياًً، وأكثرها جهلاً وتخلفاًً، حتى صارت بعض البلدان الإسلامية موطن دفن للنفايات النووية، وزراعة المخدرات، والصراعات الدموية التي لا تنتهي.
بناء الحضارة لا يكون بنقل البضائع الأوروبية واليابانية إلى أسواقنا، فهذا نشاط حضاري وليس بناء حضارياً، وإنما بناء الحضارة يكون عندما تستطيع أن تفرض وجودك واحترامك في هذا العالم، بحيث يكون لك الصدر دون غيرك، قال أبو فراس:
ونحنُ أناسٌٌٌ لا توسطَ عندنا
لنا الصدرُ دونَ العالمينَ أو القبرُ
وعندما تكون في مقدمة هذا العالم كما قال الحطيئة:
قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهم
ومن يساوي بأنفِ الناقةِ الذنبــــا
وعندما يسير العالم وراءك، لا أن تسير وراء غيرك، قال الفرزدق:
ترى الناسَ ما سرْنا يسيرونَ خلفنا
وإنْ نحنُ أومأنا إلى الناسِ وقفوا
لقد أقام سلفنا حضارة المنتصر في هذا العالم لا حضارة المهزوم، واستطاعوا أن يطوروا حياة الناس إلى أعلى درجات الرقي العلمي والإنساني لأول مرة في تاريخ البشرية كلها، فماذا نحن فاعلون؟
إن الافتخار بالماضي لا شك بأنه قد يولد الحماس للمستقبل، ولكن الحماس لا يكفي، فلا بد من العمل، لقد استطاع معظم العالم العربي أن يتخلص من الاستعمار منذ منتصف القرن الماضي تقريباً، ولكن مرحلة البناء وهي الأصعب لا تزال في بداياتها، إذ لا زال هنالك:
- فقر وجوع في بلاد كثيرة، ونكبات وحروب في بلاد أخرى.
- عجز في القدرات الدفاعية أمام أي غزو خارجي محتمل.
- مشردون ولاجئون في مواقع عدة، وأطفال مشردون يولدون في المخيمات أو على الأرصفة.
- مقدسات تئن تحت وطأة الاحتلال.
- شعوب تبحث عن زجاجة ماء فلا تجدها، وجوع وفقر وخوف ورعب وجهل وتخلف في شتى الميادين.
وكأننا لسنا جزءاً من هذا العالم الذي يشهد النمو والازدهار الاقتصادي في شرقه وغربه، وكأنه محكوم علينا بالفناء، محاصرون من كل الجهات، يتقاسمنا الأكلة من كل حدب وصوب، وننتظر المزيد من الهزائم والويلات مع ولادة كل فجر جديد.
أكتب هذه الكلمات وأنا أرى عدداً من الشعراء والكتاب والعلماء يصفون العصر المملوكي بأنه من عصور الانحطاط التي مزقت الأمة، وهذه جناية عظيمة وبهتان عظيم، فكم تحقق من الانتصارات الخالدة في عصر المماليك، وكم أقيم من دور العلم الكبيرة والمساجد الواسعة والقلاع الحصينة، لقد كانت أمتنا على كل ما في العصر المملوكي من مثالب وشوائب أفضل حالاً منها الآن، ففي ذلك العصر وقف ابن حجلة يقول بمناسبة بناء مدرسة السلطان حسن بالقلعة التي قيل إن إيوانها على قدر إيوان كسرى أنوشروان في الطول والعرض:
لسنا وإن كرمتْ أوائلُنا يومــاً على الأنسابِ نتكلُ
نبني كما كانتْ أوائلُــنا تبني ونفعل فوقَ ما فعلوا
وما أجمل عبارة (ونفعل فوق ما فعلوا). وياليتنا اليوم نفعل ربع ما فعلوا!
وصفوة القول بأننا في حاجة ملحة إلى مشروع حضاري نهضوي يمسح عن هذه الأمة الجمود والتخلف الذي لحق بها في عصر العلم والتكنولوجيا، وينبغي أن يترجم هذا المشروع على أرض الواقع لا أن يبقى حبيس الأدراج أو بين رفوف المكتبات، بانتظار المستقبل المجهول.