للحكايات الواقعية ذات الدلالات التربوية أثر حميد في بناء القناعات الايجابية وتصحيح التصورات الخاطئة خصوصا ما اتصل من ذلك بالجوانب النفسية والاجتماعية، ويمثل السعي الجاد نحو تحقيق الطموح بلا كسل ولا ملل قيمة سلوكية جليلة يحرص المربون على غرسها في نفوس الناشئة منذ الصغر، غير ان الكثيرين من السائرين على الدرب تتعثر خطواتهم وتتسرب الى نفوسهم مشاعر اليأس والقنوط بمجرد ان تصطدم سفينة طموحاتهم بأمواج الواقع وصخور الاخفاق، فتنحل عرى عزائمهم وتخبو شعلة هممهم ويستولي عليهم شعور الاحباط الى درجة يغدو معها الخطاب الوعظي (لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس) قليل الجدوى ضعيف التأثير اذ لن تفلح الحقائق النظرية المجردة في إصلاح الوضع بعد ما عاينه المتعثرون من عوائق معترك الواقع، ويغدو من المنطقي جدا ان يستعين الخطاب التوعوي حينئذ بشواهد من جوانب الواقع المشرق ليبدد بها تلك المساحات المظلمة ليتم علاج الواقع بالواقع نفسه! ومن هذه الزاوية نسوق حكايتنا هذه!
بطل الحكاية الذي سنطلق اسم (طموح) ـ بفتح الطاء ـ شاب مغمور لم يفلح في استيفاء تعليمه الثانوي، اذ اكتفى بالشهادة المتوسطة يوم كانت شهادة معتدا بها للانخراط في سلك التوظيف، فقد عين في اواخر السبعينات امينا لمخزن بإحدى مدارس وزارة التربية، وكانت غاية طموحه حينئذ الحصول على وظيفة ومن ثم تكوين اسرة صغيرة فقد كان ذلك حلم اقرانه، وقد كان له ما تمنى, وفي يوم من الأيام المدرسية (الكئيبة!) وفي جلسة جمعت المدرسين والاداريين، همس احد المدرسين في اذن صاحبنا (طموح) بكلمة قلبت كيان حياته فنفضت عنها غبار الاهمال وحركت مستنقع مياهها الآسن، ما قاله المدرس كان مزيجا من السخرية والنبوءة معا! لقد قال له (يا طموح ستكون يوما ما دكتورا!) بلهجة واثقة جدا قد يكون صدورها على ذلك النحو مما يكسب مذاقها شحنة من السخرية والتهكم! وايا كان الباعث الخلقي وراء اطلاق هذه البشارة فإنها قد فعلت بنفس صاحبنا فعل السحر!
(ستكون دكتورا) ظلت ترن مجلجلة في اذن (طموح) وتتغلغل الى حنايا وجدانه كما تقض القصيدة عند ولادتها منام شاعرها، وحينما افاق من سكرة الاماني ونظر في نفسه وواقعه تردد كثيرا، ترى كيف سيصبح (دكتورا) وهو الذي عجز عن خوض غمار معركة شهادة الثانوية العامة! واذا ما تأمل قليلا في حلم الدكترة اكتشف فعلا كم هو بعيد المنال، وتساءل كم سنة تفصل بينه وبين حلمه؟ لنحسبها معا (4 ثانوية 4 بكالوريوس 3 ماجستير 4 دكتوراه! المجموع فقط = 15 سنة * 365 يوما = 5475 يوما!!) يا لها من مفاوز مقفرة شاسعة وليال مظلمة متطاولة!
لم يكن العائق الزمني على الرغم من قتامة ووطأته العائق الوحيد، فثم عائق آخر يتمثل بالتبعات المترتبة على تكوين اسرة صغيرة انضم اليها وافد جديد يملأ حياتها صخبا وضجيجا ويضيف اليها مسؤوليات وحقوقا جديدة! وللعيال دور لا ينكر في الحؤول بين المعيل وبلوغ المعالي حتى قال القائل:
ما للمعيل وللمعالي انما
يسعى لها الفرد الوحيد الخالي
واذا اسقطت محور الزمن على محور الاسرة ادركت كم كان موقف (طموح) صعبا ومزعجا ولوجدته كفيلا بصرف اقوى العزائم واشرس الهمم عن فكرة خيالية جامحة قد تعد من ضروب المستحيل! لكن (طموح) لم يكن لينظر الى الامور بهذا المنظار الميئس المحبط، بل قرر ان يبتدئ مسيرة (5475) يوما بخطوة اليوم الأول!
وللحكاية بقية.