لم تمض إلا دقائق معدودات حتى وجدت نفسي عائدة إليها حيث كانت لا تزال في نفس المكان وعلى ذات الهيئة غارقة بالتفكير بأمر ما، سألتها إن كانت تريد شيئا، فكانت إجابتها: (أريد عملا) مثيرةً استغرابي، ولكن ذهولي زاد بعد أن تتالت عليها أسئلتي وعرفت منها قصتها المؤلمة التي روتها لي بلغة عربية ركيكة.
قالت: (أعمل منذ أربع سنوات لدى إحدى العائلات في منزلهم الواقع في هذه المنطقة، عاملوني خلالها بأسلوب سيء للغاية، كانوا يقدمون لي بقايا طعامهم لآكله، واليوم عندما كنت أشرب الشاي في الساعة الثانية ظهرا وبّخوني وغضبوا علي غضبا شديدا لأنه لا ينبغي لي – حسب قولهم – أن أشرب الشاي مرتين في اليوم، بل في الصباح فقط!! فقررت الهرب)، علما بأن الحادثة حصلت قبل حلول شهر رمضان المبارك.
(هل تريدينني أن أتصل بسفارة بلدك؟) كان سؤالي لها، ولكن جوابها كان الرفض القاطع لأن اللجوء للسفارة يعني تسفيرها لموطنها، وهي لا تريد ذلك لأنها تحتاج إلى العمل لكسب المال لإطعام طفلها البائس الموجود في إندونيسيا، أما الاتصال بمكتب العمالة المنزلية الذي استقدمها فكان من الخيارات المستبعدة لأنه يعني تعرضها للضرب من قبل العاملين فيه فاسترجاعها وطلبها العمل في منزل آخر يعني خسارتهم لعدد من الدنانير!!
قالت لي أنها لا تعرف أين تذهب، وأن كل ما تريده هو أن تجد عملا في مكان آخر لا تتعرض فيه للإساءة والإهانة، ورغم أنني حاولت إقناعها بأن ما تفعله مخالف للقانون وأنها ستتعرض للكثير من المشاكل جراء ما تقوم به إلا إن ذلك لم يكن ذا جدوى، وكانت تردد مرارا (كل ما أريده هو سيارة أجرة لتأخذني بعيدا)! حاولت أن أشرح لها خطورة الركوب مع شخص غريب فقد يضرها أحد ضعاف النفوس لكنها صاحت عندما مرّت سيارة صفراء: (هل هذا "تاكسي؟")! لتعطيني ردا واضحا على عدم اقتناعها بما كنت أقوله لها!
كان الحل المقترح أن آخذها إلى المخفر لتشتكي على المعاملة السيئة التي كانت تعامل بها من قبل مخدوميها، إلا أن ذلك الاقتراح أثار فزعها من أن تسجن لهربها من منزل كفيلها، فرفضَت وبدأت بالمغادرة حاملة كيسها البلاستيكي الأبيض الذي يحتوي على بضع قطع من الملابس.
غادرتُ المكان تاركة إياها تقاسي ما تقاسيه، ولكنني لم أتوقف عن التفكير فيها، امرأة غريبة في بلاد بعيدة لا تجيد لغة أهلها، حائرة إلى أين تذهب ولمن تلجأ، أبلغنا الشرطة لعلهم يساعدوها أو يجدوا حلا لمشكلتها لكنهم تأخروا في الاستجابة فلم يجدوها حين وصولهم، "أين ذهبت؟!" سؤال لا يعلم جوابه إلا الله تعالى.
خطف وحبس واستعباد العاملات الآسيويات وإرغامهن على ممارسة الرذيلة جرائم كثرت مؤخرا، وقد يكون ما رأيته بداية لإحدى هذه الحوادث، صحيح أنني لم أستمع إلا إلى جانب واحد من القصة ولا أعلم مدى صدق ما قالته لي تلك المرأة ولكن هذا الموقف أثار لدي الكثير من الخواطر والتساؤلات.
أولا: إن من يعملون لدينا هم إخواننا وأخواتنا في البشرية إن لم يكن بالإسلام ويجدر بنا أن نحسن معاملتهم، فنحن المسؤولون عنهم وعن رعايتهم، وعن تعليمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين وتعريفهم بالدين الإسلامي إن لم يكونوا كذلك، كما أن العمل في خدمة الآخرين لم يكن شيئا اختاروه بمحض إرادتهم بل اضطرتهم إليه الظروف لحاجتهم وفاقتهم، فلِمَ لا نخفف عنهم معاناتهم ونرحمهم!
ثانيا: إن كان لا يزال هناك من لا يمنعه شرع أو قانون أو مشاعر من الإساءة إلى الخدم، وإن كانت السفارات الأجنبية ومكاتب استقدام العمالة لا تساند المظلومين منهم، فلماذا نستنكر تصاعد أعداد الوافدين المقيمين بصورة غير شرعية بالبلاد؟! أليس سوء المعاملة عامل رئيسي في هربهم من منازل مخدوميهم وأماكن عملهم إلى جليب الشيوخ وغيرها من المناطق التي أصبحت بؤرا للمفاسد؟! ألم يحن الوقت لإنشاء جمعية لتوعية وإرشاد هؤلاء العمال وحماية حقوقهم؟
ثالثا: إننا نتمتع بنِعم كثيرة لا تعد ولا تحصى أكرمنا بها ربنا عز وجل، نبيت بسلام في مأوى آمن ومريح ومكيَّف، ونصحو مطمئنين إلى وجود ما نحتاجه من مطعم وملبس ووسيلة نقل ومال، ولكن كم منا من شكر الله على تلك النعم؟ وعلى أنْ جعله سبحانه وتعالى ممن قال عنهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ( من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا ).
اللهم لك الحمد على كل نعمة أنعمت بها علينا، اللهم ارحمنا والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________________________________________________________________
تم نشر المقال بالعدد 83 من صحيفة الحركة الصادر يوم الاثنين الموافق 8/10/2007