أولاً: محبة الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام:
فلطالما شغلني حديثُ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((... وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [مسند أحمد].
العلم بمحدوديته جعل لكثير من الأشياء مقياسًا نقيس به درجة القوة أو الحرارة وهكذا، فهذا مقياس ريختر (The Richter Magnitude Scale) مثلاً يقيس قوة الزلازل.
والسؤال الذي يعرض نفسه بقوة: هل تظن أن الله سبحانه وتعالى يطلب منا التغيير دائمًا للخير والفلاح واستبدال سيئاتنا حسنات دون مقياس نقيس به الأمور ودون ميزان نزن به الحقائق؟
سواء كنت تعرف الإجابة أو لا، سواء كنت تعلم بها أو تجهلها، فلو فكرت قليلاً فقط قليلاً لوجدت أن المقياس هنا يتمثل في الآية الكريمة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] -ولله المثل الأعلى– والرب العظيم لا يظلم الناس، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]. فالمحبة هنا تتلخص في طاعة الله سبحانه فيما أمر واجتناب نواهيه، وهي بداية التغيير المبارك.
ثانيًا: الثقة بالله:
هناك قول شائع عند الناس وهو "الثقة بالنفس"، ولو تفكرنا فيه وتأملناه لوجدناه يتجرأ على الله سبحانه وتعالى دون قصد، فضلاً عن أنه يتناقض مع فطرة الإنسان؛ والدليل على ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء الْمَكْرُوبِ: ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) [سنن أبي داود].
(فلا تكلني): أي لا تتركني.
(إلى نفسي طرفة عين): أي لحظة ولمحة.
(وأصلح لي شأني): أي أمري.
ما أود عرضه هنا: أليس من التناقض أن تثق بشيء ثقة مطلقة، وفي الوقت نفسه تطلب من الله أن لا يتركك لحظة واحدة خشية أن يفسد هذا الشيءُ أمرَك؟
والسؤال الآخر: كيف تثق بنفسك وهي التي بها طريقان؛ فهذا فجور وذاك تقوى؛ لقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].
وعليه أرى أن الثقة بالنفس غير مجدية لسبب يسير لا يغفله أي إنسان عاقل، وهو معرفة إبليس بثغرات النفس البشرية وقدرته على خلط الأمور وفسادها. لذا فالثقة هنا تكون بالله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت يُكرم الإنسان نفسه ويحترم ذاته ويتوكل على الرحمن ولعله يصيب.
ثالثًا: قيادة النفس:
يعتقد كثير من الناس أن مهارات القيادة متاحة فقط لقلة من الناس، وهذا لعمري كلام خطير ليس به من الصحة حرف واحد؛ بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8]، وهذا يعني أنَّ لكل إنسان مهاراتٍ قياديةً تتناسب مع إمكاناته وقدراته، وتساعده على السير على نهج الرسول عليه السلام والثبات عليه، ويكون هو المسؤول عن ذلك مسؤولية تامة، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لأصبح الإنسان يتعذر عند الله بكثير من أمور الحياة وبظروفه المحيطة. وعليه فإنَّ قيادةَ الإنسانِ لنفسه وتوجيه أفكاره لما يُرضي الله وحث النفس عليها، يجعل من عملية التغيير أمراً سهلاً ويسيرًا.
رابعًا: الرغبة في التغيير:
وهنا الإشكالية التي يراها كثير من الناس، فيسأل معظمهم: إنني أرغب في التغيير، ولكن لا أعرف من أين أبدأ؟ وكيف أتغير؟ وكيف أتمكن من الثبات؟
دعني أخبرك بسرٍّ يجهله كثير من الناس؛ وهو أن الإنسان لا يخاف من التغيير (Change)، ولكنه في حقيقة الأمر يخشى التحول أو الانتقال الذاتي (Transition).
(فالتغيير) هو حدث أو موقف يحدث خارج نطاق الفرد، ولكن (التحول) هو حدث معين أو موقف محدد يؤثر في الإنسان؛ سواء في حياته أو في مجال عمله. لذا أعتقد جازمًا أن الرغبة في التغيير يجب أن تستند على قلب حاضر ورغبة صادقة، قلب يعي ما يقول ويفهمه.
أما الرغبة الصادقة فدعني أخبرك بقصتها:
قرأت حكمة يقول صاحبها -وهو غير معروف من باب الأمانة العلمية وإن كان كثير من الناس يرجعها إلى فورد أوتلو (Ford Outlaw) ولكن ليس هناك ما يدل على ذلك-: "انتبه لأفكارك؛ لأنها سوف تصبح كلمات، وانتبه لكلماتك فسوف تصبح تصرفاتك، وانتبه لتصرفاتك فسوف تصبح عاداتك، وانتبه لعاداتك فسوف تصبح شخصيتك، وانتبه لشخصيتك فسوف تصبح واقعك".
عندما تأملت هذا القول خلَصت إلى ما يلي:
تبدأ الأمور بقيادة الإنسان لنفسه؛ إذ إن الوالدين قد يكون لهما أثر في خروج الإنسان من الملة لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ...)) [البخاري]. أعني هنا أن الله سبحانه وتعالى وهب كل إنسان مهارات قيادية تعينه على البقاء في ملة الإسلام من خلال محافظته على فطرته ومن ثم عقيدته.
بعد ذلك ترى هذا الإنسان السوي الذي يسير على فطرة الله سبحانه وتعالى تراه يستخدم مهاراته القيادية للمحافظة على عقيدته الصحيحة التي يؤمن بها بصورة راسخة، ويثق بها، ويعمل من خلالها، ويرى الأمور بمنظارها.
بعد الإيمان بهذه العقيدة المباركة نجد الإنسان يبدأ في الإيمان بقيم معينة، والقيم: عبارة عن مبادئ من هنا وهناك يضع الإنسان لها مكانة في قلبه وعقله. وقاعدتي هنا تقول: "كلما كانت قيمُك تنبع من عقيدتنا الإسلامية الصحيحة كانت حياتُك طيبة ومنسجمة وهانئة، وكلما كانت قيمك تنبع من عقائد مختلفة سواء كنت تعلم أو لا تعلم فسوف تعيش حياة بها من التناقض الشيء الكثير"، إذ لا تجتمع فطرة الله سبحانه مع قيم محرفة وضعها إنسان لا يعيش على الفطرة.
بعد القيادة والعقيدة والقيم يصبح هذا الخليط في رأيي المتواضع مصدراً لأفكار الإنسان، يكون منها نظامًا فكريًا يرى الإنسانُ من خلاله الأمور ويفسرها تبعًا لذلك، وهذا ما يسمى بالأيديولوجي (Ideology).
بعد هذا كله ومن خلال تفاعل الإنسان بالبيئة المحيطة يتبنى أنماطًا فكرية مختلفة في مجملها توافق نظامه الفكري الذي تبناه. علمًا أن أي تغيير جذري في هذه الأنماط قد يغير من نظامه الفكري، ولكن في رأيي أي تغيير في هذا النظام لا بد أن يغير بعضًا من الأنماط الفكرية المستخدمة، وكل نمط فكري يستخدمه الإنسان سوف يولد أفكاراً مختلفة في عقله، وذلك يجعل من هذا العقل مركزاً مهمًا ومحوريًا لتواصلنا مع أنفسنا والآخرين، لذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان أنه رفع القلم عمن لا عقل له.
هنا كل فكرة أو أكثر قد تصبح قولاً، وكل مجموعة من الأقوال قد تصبح فعلاً، وكل مجموعة من الأفعال قد تصبح عادةً، وكل مجموعة من العادات قد تصبح طبعًا، وكل مجموعة طبائع سوف تكون شخصيتك التي تتكون من استعدادك النفسي والجسماني وتكويناتك التي استقيتها من والديك والبيئة المحيطة.
لذا -وهنا بيت القصيد- إن نشدت التغيير فعليك أن تعرف أن الأمر ليس هينًا أو "خفيفا"، إذ لو كان كذلك لما قال الله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] فذلك يعني أنه يجب عليك التفكير بطريقة جديدة ومختلفة لم تعتدها من قبل، حتى تصل إلى نتائج فكرية جديدة تساعدك على التغيير، قوامها الثقة بالله واليقين بالمساعدة.
خامسًا: المعرفة:
لا تستطيع أن تحوّل شيئًا إلى شيء آخر وأنت لا تعرفه أو تجهله، فهذا مضيعة للوقت والجهد، وسر التغيير يستند على المعرفة التراكمية للإنسان من خلال القراءة وغيرها، إذ إن تعريف المعرفة يتخلص ويرتبط بفهم الإنسان لموضوع معين بمستوى معين، فكلما عرفت ذاتك وحياتك وركزت عليهما، استطعت بعون الله أن تغير نشاطات وسلوكيات تتعارض مع الأخلاق الإسلامية.
لذا أوصي هنا بالتركيز على ثلاثة أمور نحاولُ جميعًا معرفتَها حتى نصل في نهاية الأمر إلى معرفة راقية وفهم واضح لما نفعله من سلوكيات في الحياة، حتى نستطيع أن نغير القبيح منها إلى حسن، والسيئ إلى جميل. وإن أردت أن تصل إلى إدراك ما تقوم به في الحياة بعامة وهي مرحلة عالية جداً من الرقي الإنساني، أي أن تفهم كل تواصل وسلوك تقوم به من جميع الجهات والجوانب، فهذا بصراحة شأن من يريد فعلاً أن يتغير وأن يستمتع بحلاوة التغيير وحسناته:
1- الأفكار: بعامة هي عبارة عن صور ذهنية أو فهم معين، والتفكير بهذه الأفكار عبارة عن عمليات ذهنية وعقلية وفكرية تسمح للإنسان بمحاكاة العالم الذي يعيش فيه بفعالية من خلال أهدافه وخططه ورغباته. دعنا نقم بهذا التمرين معًا: يقول الله سبحانه وتعالى: {... أَلَا بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنّ الْقُلُوب} [الرعد: 28]. حاول أن تقوم بهذا التمرين الذي يبين استعدادك للتغيير، إذ إن عدم اطمئنان النفس بعد ذكر الله سبحانه -وهذا حال أغلبيتنا إلا من رحم الله- يدل على أن هناك خللاً فطريًا لدينا بصورة أو بأخرى والله المستعان. إن قيادة أفكارنا والتحكم فيها يجعل منا أناسًا أقوياء أمرُهم بيدهم، حتى لو شاء إبليس وأعوانه غير ذلك.
2- المزاج: هو عبارة عن فكرة أو أكثر مسيطرة على عقل الإنسان، ومن ثم يفسر الأمور استناداً عليها، ويتصرف بناء على ذلك. فهنا يكون تعرُّف أفكارنا المصاحبة لنا يوميًّا التي تتغير تغيرًا أسرع منا هو مطلب أساسي للتغيير بلا شك.
3- السلوك: وهو عبارة عن التصرفات والنشاطات التي نفعلها، وردود أفعالنا على ما يحدث من حولنا، ومن رحمة الرحمن أن جعل لدينا القدرة على استيعاب البيئة المحيطة وما يدور بها من أحداث، وجعل التعليم لنا متاحاً لكي نستجيب بطرق وأشكال مختلفة، ومن ثم تكييف سلوكياتنا وضبطها ضبطًا يتناسب مع أخلاقنا الإسلامية أي تغييرها.
بالتأكيد تتفق معي عزيزي القارئ أن هذه النقاط الثلاث تتفاعل مع بعضها، فمثلاً قد تؤثر أفكارُ الإنسان في مزاجه ومن ثم في سلوكه، من ناحية أخرى قد ينجم عن سلوك اعتاده أحدنا -مثل الغضب- على تعكير صفو علاقة ما، فيؤثر في مزاجه وأفكاره وهكذا دواليك.
سادسًا: التعليم المستمر:
يقول وليام جلاسر (William Glasser): إن الإنسان يتعلم بنسبة 10% عند القراءة فقط، وتصبح 20% عند السمع، ولكنها تزيد وتصل إلى 30% إن كان التعلم من خلال النظر، وإن جمعت النظر والسمع فسوف يتعلم الإنسان بنسبة 50%، وعندما يكون النقاش متاحًا لنا فسوف ترتفع نسبة التعلم والاستفادة إلى 70%، أما التجربة فسوف تجعلنا نتعلم بصورة أفضل وتصل نسبة التعلم بها إلى 80%، أما المشاركة -التي تستند على كل ما سبق من خلال علاقة تتسم بالمنفعة والثقة المتبادلة- فإن درجة التعلم سوف تصل إلى نسبة 95%. إذًا ما نحتاجه هنا هو تحسين النفس وتطويرها من خلال التدرب على مهارات جديدة في التعامل الإنساني، والتعلم من أهل المعرفة وأصحاب التجربة وذوي الخبرة.
لعلي استطعت أن أوضح أمراً مهمًا في مجال التغيير الذاتي، الذي أراني أحوج الناس له، فإن أصبت فهو من الله العزيز الوهاب، وإن أخطأتُ فلا تَقْسُ علي عزيزي القارئ، فربي سوف يعطيني نصيبًا واحدًا من الأجر، وأراك سوف تعطيني عذرًا واحدًا من أعذاري السبعين.