حتى الطيور تفرّ من وطني
ولا أدري السبب
حتى الكواكب والمراكب والسحب
حتى الدفاتر والكتب
وجميع أشياء الجمال
جميعها ضدّ العرب
- نزار قبّاني -

عندما سئل الكاتب الجزائري طاهر وطّار لماذا لا تغادر الجزائر مادامت الرصاصات الطائشة تطاول الكتّاب والمبدعين في الجزائر , أجاب قائلا : أنّه لن يغادر الجزائر لأنّه ككاتب وروائي يعيش حدثا كبيرا ومعقدّا ومتداخلا ودراميّا وقد يكون هذا الحدث ضروريّا لعمل روائي جبّار , وربمّا رواية طاهر وطّار الشمعة والدهاليز فيها الكثير من تداعيات الوضع الجزائري وللأسف كانت الشمعة واحدة فيما الدهاليز لا حصر لها , وواقعنا العربي يحتاج إلى مئات الشموس لا الشموع لتبديد الظلام الحضاري الذي يلف واقعنا في كل تفاصيله .

أعترف أنني لم أكن أملك وجهة نظر وطّار , فالوحي الإبداعي يتأتى للمبدع في أي رصيف في الوطن أو المنفى , و أنا بحكم تكويني الأدبي وعالمي الشعري ومنطلقي في تقديس إنسانيّة الإنسان أتضررّ للغاية عندما أرى منظر الأجساد الممزقّة والرؤوس المقطوعة والدماء المراقة في كل رصيف , و دائما كنت أرددّ لماذا يتحارب أبناء جلدتي بالخنجر والسيوف والبنادق والكمائن , لم يكن في وسعى أن أتأمل عيون الجزائر وهي تبكي بدل الدمع دما عبيطا , فقد كنّا على الدوام نحلم بجزائر عملاقة لا وجود فيها للأحقاد والضغائن والصراعات السياسية والعرقيّة والدينية وغيرها , كنّا نتصوّر أنّ ثورة المليون ونصف المليون شهيدا ستعصم الجزائر والجزائريين من الإنزلاق بإتجّاه الهاويّة .

وقد لعبت أمي دورا كبيرا في خروجي من الجزائر , حيث قالت لي : أن أراك غريبا مشتتّا في بلاد الناس , تائها في الفلوات بإتجّاه القارات الخمس خير لي من أن أراك مذبوحا من الوريد إلى الوريد .
لكن من أنا حتى يكون الموت هاجسي , والقتل كابوسي واللون الأحمر مع أني لا أحبّ اللون الأحمر كثيرا هو الوحيد الذي يتراىء لي .

إننّي ككاتب ومبدع أزرع الحياة فلماذا أقابل بالموت !
أغرس البنفسج فلماذا يغرز الخنجر في قلبي !
أنشر في الناس مبادئ حبّ الوطن فلماذا أنا بلا وطن , بلا عنوان , بلا جغرافيا , وحدها الأرصفة وطني , و حدها قصائد الحزن سلواي وعزائي !

إننّي أدعو إلى المحبّة فلماذا أقابل بالكراهية ! أدعو إلى الحوار والمصالحة فلماذا يريد المتقاتلون والمتباغضون أوصياء الأرض وأوصياء السماء أن يصفّوا حساباتهم على جسدي هذا !
إنني أدعو إلى أن نرقى إلى مستوى الحوار الحقيقي , أن نتعلم كيف نحلّ مشاكلنا بالنقاش الهادئ والتفاوض الإنساني الحضاري , لا بالبندقيّة والعنف والسجون والمعتقلات وإختطاف الناس من الشوارع والعنجهية والعصبيّة المقيتة .

هذا الفريق سنده الدستور في جواز القتل وهذا الفريق سنده السماء في جواز القتل , ولكن هل كتب السماء السمحة والدساتير الإنسانية الراقية تنص على القتل والقتل فقط , على الذبح والذبح فقط , على الحرب و الحرب فقط . أشكّ في ذلك وأجزم أنّ أهواء الإنسان في وطني الجزائر هي التي تملي عليه قناعاته .

عندما نمعن النظر في حضارات الشعوب نجد أنّ كل الحضارات تقدّس الأدباء والمبدعين والمفكرّين و المنتجين للكلمة والفكر , وهذه الحضارات الراقيّة تكرّم الأحياء قبل الأموات , وفي وطني الجزائر وفي أوطاننا العربية والإسلامية أن تكون صاحب كلمة وإبداع فمصيرك بين قتل خسيس بالشفرة نعم بشفرة الحلاقة كما حدث مع أحد الكتّاب الجزائريين , وقتل بالفأس تارة وبكاتم صوت , وبين سجن في أعماق الصحراء حتى يموت المبدع نسيّا منسيّا , وإن لم يمت بلدغ العقارب مات بلدغ الحيّة , وإن نجا منهما فحرّ الصحراء و ظمأها كفيلان بقتل المبدع ببطئ وبالتقسيط , وإذا نجا المبدع من هذا وذاك فأمامه المنفى وما أدراك ما المنفى حيث الضياع والتيه والدخول في المجهول وإجتثات من الأرض , وعلى المبدع أن يختار هذه المصائر أو مصيرا واحدا على الأقلّ .

ثمّ إذا كانت هذه هي المصائر التي تواجه المبدع , فكيف يا ترى يبدع ! وما سمة النتاج الأدبي الذي ينتجه يراع الكاتب المحكوم عليه بالموت لا لشيئ سوى كونه كاتبا , فالكاتب في الجزائر و بلادنا من بغداد إلى تطوان إذا مال إلى السلطة قتلته المعارضة , وإذا مال إلى المعارضة قتلته السلطة وإذا بقيّ حياديّا قتله الإثنان معا .
مبدئيّا يجب القول أنّ الكتابة في ظل رائحة الموت وجزّ الرؤوس تصبح إنتحارا , تصبح سباحة ضدّ التيّار , تصبح أقصر طريق إلى اللحد , ولذلك يكون النتاج الأدبي والإبداعي لكاتب يعيش هذه الظروف عظيما عملاقا , ويلحق هذا الإبداع بمصاف الإبداعات الإنسانيّة الخالدة والإبداعات الحضاريّة الكبرى في تاريخ الفكر البشري . والرائحة المنبعثة من هذا النتاج الأدبي هي رائحة الموت , رائحة الرعب , رائحة القبور واللحود , رائحة الكافور الذي يوضع في كفن الميت ساعة قبره , ولهذا كلّه يكون هذا النتاج الأدبي أشبه بوصيّة , أشبه برثاء , أشبه بتوديع , و يشعرك هذا النتاج الأدبي أنّ صاحبه يشعر أنّ بينه وبين القبر أو السجن أو المنفى مسافة كلمة , مسافة جملة , مسافة بيت من الشعر .

لكن كيف ترقى أمة إلى الرقيّ الحضاري إذا كانت الكلمة التي هي مدماك الحضارة وفي البدء كانت الكلمة تؤدّي بصاحبها إلى الموت , إلى المنفى , إلى المشنقة .

ومهما كانت الأخطار فإنني أعتقد أنّه في حرب السيف والقلم , الكتاب والبندقيّة , الفكرة والخنجر , السلام والعنف , العقلانيّة والعنجهيّة , في آخر المطاف سينتصر القلم والكتاب والفكرة والسلام والعقلانيّة و أخر الكلام ما قالته الشاعرة الجزائريّة حبيبة محمدي:

بلاد تقتل البنفسج وتنحر
ثمّ تقرأ إنّا أعطيناك الكوثر

وآخر الكلام ما قاله نزار القبّاني

كلماتنا في الحبّ تقتل حبنّا
إنّ الحروف تموت حين تقال .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية