يعود ظهور "الجمعيات" في العالم العربي عموماً إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو ظهور يمكن ردّه بالدرجة الأولى إلى الاحتكاك المتزايد بالثقافة الغربية ومفاهيمها وأنماط النشاط العام فيها؛ ولقد كان لهذا الظهور دوافع شتى وأهداف متنوعة، غير أن الفكرة لم تلبث أن اتسعت.
ولبى هذا النمط الحديث من النشاط العام حاجة المجتمعات العربية إلى نوع جديد من أساليب العمل الجماعي، فانتقل استخدام الجمعيات إلى الوسط المسلم الذي وظّف الفكرة لتطوير مجالات الخدمة الاجتماعية بين أبناء المسلمين، والتي كان من أبرزها "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" التي أسسها في بيروت الوالي العثماني أحمد شفيق مدحت باشا عام 1878 م.، والتي لا تزال موجودة إلى اليوم (1).
ومع دنوّ القرن العشرين تجاوزت الجمعيات في البلدان العربية حيّز العمل الاجتماعي والخيري، حينما بدأت تظهر على الساحة الجمعيات والأحزاب ذات التوجه السياسي على اختلاف عناوينها وأهدافها، ولم يعد يقف في طريق الدعوة الجديدة شيء، وسرعان ما تحولت الفكرة وتطبيقاتها في المجتمع العربي إلى مفردة اعتيادية في مشهد الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية على حد سواء.
لم يكن هذا التطور في فكرة الجمعيات وانتشارها منبتّ الصلة بالتطورات الأخرى التي شهدتها المجتمعات والأمة الإسلامية بالتأكيد، فعجلة التاريخ المفعمة بالمستجدّات ما كانت لتترك الأمة في غفوتها إلى الأبد، ولقد كان من الطبيعي أن تتردّد في جسد الدولة العثمانية المترهل أصداء ما يجري في الجوانب الأخرى من العالم، والذي كان من الطبيعي أن تتم مقارنته بدين الأمة "الإسلام" الذي كان عنوان شخصيتها العامة وميزان الرفض والقبول لدى معظم أبنائها ورعاياها؛ لكن الطبيعي أيضاً أن الأشواط التي قطعتها الأمم الأخرى على الأصعدة السياسية والعسكرية والتقنية والمدنية كانت تشكل عنتاً عاماً في التوفيق بين التقدّم والازدهار على الجانب الآخر مقابل التبعية والتقهقر والانكسار الذي أصاب المسلمين في معظم هذه الأصعدة!
وبينما انغمس عامة المسلمين في قضاياهم المعاشية، يمارسون التديّن الشكلي من غير التفات إلى التناقضات الصارخة بين عقيدتهم وأنماط حياتهم اليومية، مثّل العلماء في مساجدهم ومدارسهم وحلقات دروسهم مصدر المعرفة الأساسي لعدة قرون، من غير أن يطوّروا في مناهجهم ما يواكب المستجدات المتسارعة ( تأسست المدارس الحكومية الأولى في سوريا في بواكير الستينات من القرن التاسع عشر (2) )؛ لكن الدولة العثمانية كانت في أمسّ الحاجة للبحث عن سبيل عملي ينقذ هيبتها ويحفظ أسباب وجودها بعد انكساراتها العسكرية أمام الأوربيين، وتقهقرها المتتابع من بعد في شتى الشؤون العسكرية والاقتصادية وإلإدارية وغيرها، ولأسباب عدّة فقد اختار دعاة التغيير والمنادون بالإصلاح من العثمانيين المنهج "العلماني" سبيلاً لتحقيق أهدافهم، اقتداء بأوربا التي بهرت العالم بتقدمها القائم على قوانينها الوضعية وفصل الدين عن الحياة، واعتبروا المعرفة الإسلامية المتاحة وأحكام الفقه الشرعية عاجزة عن توفير أسس النهضة المطلوبة، مثلما اعتبروا العلماء عائقاً في مشروع الإحياء المُلحّ، وعندما أجروا سلسلة من القرارات التي حدّت من تأثير علماء الإسلام ووجودهم في الدوائر الأعلى لصنع القرار، لم يجد معظم هؤلاء العلماء الغارقين في التقليد والمحافظة الكثير الذي يقدمونه، واعتقدوا أن الانسحاب إلى مساجدهم ومدارسهم وحلقات دروسهم، باعتبارها القلاع المتبقية بأيديهم دون سواها، سوف يحفظ الإسلام أمام كل التحديات!
"مشايخ" و"أفندية" !
ولقد ظهر في خضمّ هذه المرحلة الحرجة فئة محدودة من علماء الإسلام ودعاته المستنيرين، ممّن استوعبوا المستجدات الراهنة حول العقل والعلم والتقنيات المختلفة في رؤية لا تناقض الإسلام، وآمنوا بقدرته على مواجهة قضايا العصر والحضارة دون التخلف عنها، بدءاً بجمال الدين الأفغاني ( 1738 ـ 1897 م. ) الذي مثّل الأبوّة الروحية لمدرسة التنوير والتجديد في عصره، وكبار أقطاب المدرسة من بعده : الإمام محمد عبده ( 1849 ـ 1905 م. )، ورشيد رضا ( 1865 ـ 1953 م. )، والذين ظلوا وأتباعهم يمثلون الاستثناء في خضم العلماء المقلّدين الجامدين، وبقيت مساعيهم الإصلاحية محدودة الأثر، شأن أي مجدّد أو دعوة للتجديد!
إن وصفاً قدّمه الشيخ علي الطنطاوي عن حال الدعوة الإسلامية في بداية القرن العشرين يجسّد صورة ما تقدّم بقلم أحد أبناء جيل تال من تلك القلّة من العلماء الذين جاوزوا دائرة الجمود وانفتحوا على عصرهم وقضاياه، خاصة وأن الطنطاوي قد نهل من مدرسة خاله محب الدين الخطيب، الذي اعتنق السلفية العلمية (3)، ومارس النضال الوطني، وخبر السياسة، ودرس القانون والآداب، ومارس الصحافة والكتابة، وخالط أهل العلم والفن والأدب والفكر على اختلاف مشاربهم، ونقل لابن أخته الشيخ الطنطاوي الكثير من خبرته وطباع شخصيته وسـعة الأفق لديه؛ يقول الطنطاوي (4) : "لما قدمتُ مصر أول مرة ( وكان ذلك في شهر سبتمبر عام 1928 م. (5) ) كانت الدعوة الإسلامية فيها منحصرة في الأزهر المعمور، والرجال الذين تخرجوا فيه أو على أسلوبه، وفي المدارس التي كانت تنحو منحى الأزهر كدار العلوم، وفي أفراد معدودين من غير الأزهريين.." ويفصّل فضيف : "فالأزهر وإن ظلّ دهراً طويلاً المعقل الإسلامي من هجمات الإلحاد، والمصباح الهادي في ظلمات الجهل، قد اقتصر عمله على التعليم دون التوجيه الاجتماعي، واقتصر التعليم فيه على قراءة كتب معينة من كتب المتأخرين، وصرف الجهد كله في حل العقد وألفاظها، وكشف الغامض من معانيها، أي أن المقصد من التعليم كان الكتاب لا العلم كما قال الشيخ محمد عبده، وكانت كتب الأئمة الأولين في الفقه والعربية وغيرها منسية متروكة لا يكاد أحد يرجع إليها، وكان من هذه العلوم ما هو عبث لا طائل تحته، ولا يكاد ينفع في دنيا ولا دين..
وكان عمل ( المنار ) وتلك الطائفة من العلماء الأخيار منحصراً في بقعة ضيقة وأفراد قلائل لا يتعداهم أثره، ولا يصل إلى جماهير الشعب ولا إلى طلاب المدارس... فكان الناس قسمين : مشايخ وأفندية، وكان الشعب بينهما متديناً على جهل بحقائق الدين، متمسكاً بالإسلام على مزج لكثير من البدع والخرافات بالإسلام...".
وينتقل الطنطاوي بتخصيص أكثر إلى الحديث عن حال الدعوة الإسلامية في سوريا التي أتى منها، وعاش وشبّ في عاصمتها، ويقول (6) : "كان في الشام مشايخ أجلاء، من أوعية العلم وصدور العلماء، ولكنهم كانوا على الغالب جاهلين بأحوال الناس، يَنْفُُرُون من كل جديد، ويطمئنون إلى كل قديم، عجزوا عن الدعوة إلى الله بالأساليب العصرية الجديدة، وعن إدراك عقلية الشباب، فانسحبوا من المعركة، وأخلوا الميدان، وانطووا على أنفسهم، واعتكفوا في مدارسهم ومساجدهم..". ومن كان على الطرف الآخر ؟ يضيف الطنطاوي : "أفندية يقودهم من كانوا يسمون في الشام رجال الرعيل الأول... من الوطنيين، وكانوا على الغالب جاهلين بالإسلام، ليس في نفوسهم منه إلا صور مشوّهة، وكانوا حرباً على أهله والداعين إليه، وإن كان لهم فضل العمل على دفع الاستعمار وتحقيق الاستقلال... وسبب هذا كله المشايخ، أعني بعضهم، فهم الذين طبعوا في نفوس هؤلاء الناس تلك الصورة المشوهة للإسلام، المشايخ الذين طالما لقينا مِنْ تكفيرهم مَنْ يقول بكروية الأرض وحركتها، ومَنْ يدرّس الجغرافيا والكيمياء والطبيعة!".
روّاد "الإصلاح الإسلامي"
وواقع الأمر، ورغم قتامة الصورة التي رسمها الطنطاوي، إلا أن بلاد الشام لم تخل من ظهور علماء مصلحين على خطى الأفغاني ومدرسته، ممن كان لوجودهم خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أثره الواضح في إيقاظ الوعي الإسلامي، وتحريك المشاعر الدينية، نحو اتجاه يتجاوز التديّن التقليدي الذي آلت إليه غالبية الأمة وقتذاك؛ وعلى الرغم من اختلاف بواعث هذا التحريك وآثاره، ومدى الاتفاق أو الاختلاف بين منهج هؤلاء الرواد ومنهجية الحركات والجماعات والمدارس الإسلامية التي ظهرت فيما بعد، إلا أن أثرهم في الريادة لا يُنكر، ودورهم التنويري لا يُغفل، ومن أمثال هؤلاء يمكن أن نذكر : الشيخ طاهر الجزائري ( 1852ـ1920 م. ) الذي يُعدّ أبرز دعاة الإصلاح السياسي والتعليمي في دمشق إلى جانب التجديد الديني؛ والشيخ جمال الدين القاسمي ( 1866ـ1914 م. ) الذي اعتبر إمام الشام في عصره، علماً بالدين، وتضلعاً من فنون الأدب؛ وعبد القادر المغربي ( 1868ـ1956 م. ) من علماء اللغة والأدب، نائب رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، ورئيسه فيما بعد؛ وعبد الرحمن الكواكبي ( 1849ـ1902 م. ) الذي تصدى لفساد الحكام، وجمود الفكر، ورجعية بعض علماء الدين، وكان رائداً من روّاد إصلاح المجتمع، ومحاربة الاستبداد، وتطهير الإسلام من البدع والخرافات، ونشر التعليم، ومحو الأمية، والتسامح الديني، ومحاربة الإلحاد؛ والأمير شكيب أرسلان ( 1869ـ1946 م. ) الذي كان رغم مولده في لبنان بالغ التأثير على الساحة الفكرية والسياسية في سوريا؛ وكان قد تأثر في مطلع شبابه بالإمام محمد عبده ولازمه في مصر وأخذ عنه، وتعرّف على جمال الدين الأفغاني لاحقاً وتأثر به، كما كان على علاقة متينة من بعد بالشيخ رشيد رضا الذي لقّبه بأمير البيان؛ ومحمد كرد علي ( 1876ـ1953 م. ) أستاذ الكاتبين ورائد الصحافيين، مؤسس المجمع العلمي العربي في دمشق الذي كان الأول من نوعه في العالم العربي؛ أتقن التركية والفرنسية إلى جانب العربية، وكان من رواد حلقة الشيخ طاهر الجزائري، ودروس وحلقات تلامذته البارزين.
بين "التقليد" و"التجديد"
إن أمثال هؤلاء العلماء المصلحين، ممّن خرجوا عن إطار التقليد، وحاولوا استنقاذ أمتهم وأوطانهم من حالات التردي التي أصابتها، والذين نجحوا في خلق تيار فكري جديد فيها، جمعت بينهم ـ على اختلاف شخصياتهم ـ صفة العمل الفردي التقليدي، على طريقة من سبق من علماء ومفكرين ومصلحين اكتفوا بالخطابة والكتابة والتدريس، مبتعدين عن العمل المؤسسي والتنظيمات الجماعية التي لم تكن شائعة وقتذاك، وبإمكاننا أن نلحظ الفارق بينهم وبين تلامذتهم والجيل التالي من مدرستهم، ممّن تجرأوا على الخوض في التنظيمات والأحزاب الآخذة بالنشوء والانتشار، وشارك بعضهم في تأسيسها وقيادتها، إنما في اتجاه التغيير السياسي قبل كل شيء، على أمل إحداث إصلاح في مؤسسات الحكم وأنظمتها بالدرجة الأولى؛ غير أن الزمان عاد ليترك بصماته التجديدية حتى على أساليب عمل العلماء والمصلحين الدينيين، ولم تلبث بلاد الشام والمدن السورية وأن أخذت تشهد تنامياً مطرداً في قيام الجمعيات الدينية، وتنوعاً وتعدداً في اهتماماتها وأهدافها وأساليب عملها، وتبلور ذلك بشكل أوضح في العقد الثاني من القرن العشرين، تحت أسماء مختلفة، وأهداف وتوجهات متقاربة؛ ولقد تضاءل وجود بعض هذه الجمعيات على مرّ الأيام وغابت عن الساحة لعوامل مختلفة، وآثرت مجموعة منها الاستمرار على ذات الطريقة التي بدأت بها والمنهج الذي قامت عليه، فيما اتجهت مجموعة أخرى لتحقيق مزيد من التقارب والتعاون، إما لوجود اتفاق مسبق بين القائمين عليها منذ البداية، أو لوجود فهم متقارب في تناولها للقضية الإصلاحية والدعوية، وتشابه في أهدافها ووسائل عملها، من غير أن يخفى تأثر العديد من هذه الجمعيات بمثيلاتها التي سبقتها إلى الوجود في مصر، مثل جمعية "الهداية الإسلامية"، وجمعية "الشبان المسلمين"، ومن ثمّ جماعة "الإخوان المسلمين" التي استطاعت أن تتقدم الصفوف خلال فترة وجيزة وتأخذ موقع الريادة الأول في ساحة العمل الإسلامي المنظم.
________________________________________
1. عمر عبد الله : "الكفاح الإسلامي في سورية" ـ ص88ـ89
2. "ديفد دين كومنز" : "الإصلاح الإسلامي : السياسة والتغيير الاجتماعي في سوريا أواخر العهد العثماني" ـ ترجمة د. مجيد الراضي ـ ص75
3. إن إطلاق وصف "السلفية العلمية" على منهج الإصلاحيين في بدايات القرن العشرين يقتضي الإشارة إلى الفرق بينها وبين مصطلح "السلفية" الذي عمّ استخدامه بعد عدة عقود، وارتبط بمدرسة فقهية ـ سياسية محددة؛ ففي الفترة المتقدمة لم يخرج لفظ "السلفية" عن حدوده اللغوية، التي تعني الالتزام بأصول الإسلام ومصادره ونصوصه الثابتة، ونبذ ما علق به وأضيف إليه من مفاهيم وممارسات تتناقض وروحه الأصيلة ومقاصده الحقيقية، وتعرقل دوره الفاعل في الحياة.
4. مجلة "المسلمون" ـ العام الثالث ـ العدد الثاني ـ ص 149ـ151
5. "ذكريات علي الطنطاوي" ـ ج1 ـ ص244ـ245
6. مجلة "المسلمون" ـ العام الثالث ـ العدد الثاني ـ ص 151ـ153