عندما كتبت أول مرة عن عادة تقبيل الأيدي في بلادنا ومايصاحبها من مشاعر الخضوع والذل –قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما- قامت القيامة ولم تقعد ، وانبرى بعض من أصحاب الفتاوى الانترنيتية –ومازال– يفند أفكاري الشاذة تلك ، ويتحدث عن مشروعية تقبيل الأيدي والأرجل في الاسلام ، ودليلهم في هذا أن الصحابة كانوا يقبلون يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعترض ولم ينههم عن ذلك –كما قالوا-،
لكن القضية لم تقف عند هذا الحد ، فلقد كتبت –حينها- أنعي باللائمة على الرجال الذين يرغمون زوجاتهم على تقبيل أيديهم قهرا وإذلالا ، وفي أولئك من يدعي العلم والدعوة والمشيخة ، وعن "الحموات"-جمع "حماة" إن صح- اللاتي يقهرن زوجات أبنائهن بهذه العادة القبيحة الشاذة الدخيلة على حضارتنا وديننا ، بل لقد رأيت بنفسي عائلات ترغم الزوجة على تقبيل يد والد الزوج وأمه وكل إخوته من الذكور - ولاأدري لماذا استثنوا أخواته من الإناث من هذا التقبيل والتبجيل؟ - ، ولما رأت إحدى أولئك السيدات استغرابي واستهجاني لمثل هذا الأمر قالت لي : "ألم يتزوجني ويسترني فمن حقه علي وكل أسرته أن أقبل أيديهم ، وأضافت : هذا مكتوب في القرآن !! قلت لها : في القرآن؟! أجابتني طبعا لقد قرأ علي زوجي ذلك بنفسه وأفهمني أن هذا واجب على المرأة المسلمة! ثم أردفت: الله لايوفقها سلفتي الاسبانية ..تلك لايجبرونها على هذا الذل ..فهي ليست مسلمة " !.
انفصام في الشخصية ، وأحقاد مرضية دفينة ، وأقوال تنافي الأفعال ! ، محاولة واحدة لرمي حجر واحد في مستنقع عاداتنا العفنة الآسن ، مجرد محاولة لزحزحة شيء من موروثاتنا الثقافية الدخيلة على حضارتنا الإسلامية العظيمة ، تمخضت عن حرب "انترنيتية" دامت منذ دخلت الانترنيت بلادنا ، وبقي المستنقع الآسن آسنا ، وليس إلا أن نرى أعداد المتابعين للمسلسل السوري "باب الحارة" – وأخواته من المسلسلات المشابهة- ، هذا المسلسل "الفظيع" الذي عُرض علينا رمضان الماضي ليكرس كل عاداتنا القبيحة وأعراف الحارة أو القبيلة التي دأبنا عليها منذ أن سيطرت الثقافات الدخيلة على حضارة الاسلام في النفوس والعقول وكبلتها بقيود أشد ثقلا من الحديد .
أعجب مافي ذلك أن يقوم اليساريون بنقد هذا المسلسل الذي عرض علينا أمراضنا الاجتماعية مجتمعة دون أن يفندها ويجد لها الحلول أو التصويبات المناسبة كما فعل مسلسل "عصي الدمع" ، أخطاء وأمراض صفق لها الجمهور وهلل إلى درجة أن أكثر الناس ممن نعرف كانوا يتركون صلاة التراويح لمتابعة المسلسل ، بينما انبرى بعض الاسلاميين للدفاع عنه لأنه كما قال كثير منهم يحفظ على الأمة هويتها !، لاأدري عن أية هوية يتكلمون ؟!، هوية مستنسخة عن أيام انهيار الخلافة العثمانية عندما أصبحت مجرد قومية تركية تفرض على الناس بقوة النار والحديد .
أعجب من ترسيخ العادات والتقاليد التي لانجد في حضارتنا ولاديننا مايدعمها ، والتي تعمل كمعاول هدم في جسد الأمة بدءاً بتدمير الكرامة وانتهاءا بتكريس الإهانة ، أعجب من هذا سقوط الكثيرين في مهاوي البحث عن مبررات لتلك الأخطاء التي وجدنا عليها آباءنا فسرنا على خطاهم عمياً صماً دون أن يخطر على بال أحد أن يقف ليقول هذا أمر ماأنزل الله به من سلطان.
مازالت صفحات الانترنيت تنضح بالحقد على ماكتبته قبل خمسة وعشرين عاما حول هذه القضية ، مئات الصفحات سودتها نساء تعشقن أزواجهن وتدللن بمالايقبل الشك – إنترنيتياً طبعاً - بأنهن جاهزات أبدا ودائما لتقبيل الأيدي والأرجل للتعبير عن الخضوع والرضى والحب .
"الحب لايتكلم كثيرا" كتاب جميل لرجاء النقاش ، الذي رحل عن عالمنا دون أن يرى أي تغير كان يرجوه في هذا العالم ، قبلة الحب مودة لاتحتاج إلى إثبات ولاإلى كثير كلام ، ولاتضطر أحدا لاختراق الحجب ليعلم بها ، لايعلم هؤلاء القوم أن قبلة الحب حتى لو كانت في اليد أو الرجل اختياراً ، تختلف اختلافا جذريا عن قبلة يُرغم المرء عليها إرغاماً ، ألا ترى إلى الأمهات يقبلن كل جزء من أجساد أطفالهن حباً وحناناً ، لم أر في حياتي امرأة واحدة تنحني لتقبل يدّ زوجها أو حماها أو حماتها أمام الناس إلا وهي تدعو الله تعبيراً أو همساً أن يكسر الله هذه اليد التي أرغمتها على الذل أمام أعين الآخرين !!.
في حضارتنا الاسلامية الأمر مختلف تماما ، ولاأتكلم عن موروثاتنا الثقافية التركية والكردية وغيرها في المنطقة ، ولم أذكر الثقافة العربية لأن الركوع واتخاذ الأرباب من الناس لدى العرب كان عيباً عظيماً ، ولدينا قول المغيرة بن شعبة للفرس أثناء رسالته إليهم : "كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى" ، ولقد عزز الاسلام الشعور بالكرامة والأنفة ، رفض رسل المسلمين ودائما أن ينحنوا في حضرة الملوك الذين أُرسِلوا إليهم ، وقصة "عامر بن ربعي" -في نفس السابقة في موقعة القادسية - أشهر من نار على علم بين القصص التي نرويها ولا تتجاوز حناجرنا!!، في حضارتنا الاسلامية كان الرسول العظيم محمد عليه الصلاة والسلام يقوم إلى ابنته فيأخذ يدها ويقبلها ويقبل رأسها أي يقبل هو يد ابنته ، فخفض جناح الذل من الرحمة أمرٌ للأبناء لبرّ الآباء وليس إرغاما من قبل الآباء لتعبيد الأبناء ، أين نحن من هذا الفهم النبوي الذي جاءت به حضارتنا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ؟! ، خلطنا مفاهيم البرّ وحسن الصحبة وطاعة الزوج بمفاهيم الاستعباد والقهر والإذلال ، من قال أن برّ الولد لأبيه لايستقيم إلا بالركوع لتقبيل يديه ورجليه ؟، كم من ولد بارّ يقبل يدي ورجلي أبيه حبا لاخضوعا ولاإرغاما ؟!، لقد رأيت آياء وأمهات يرفضون تماما أن ينحني أبناءهم لتقبيل أيديهم مخافة أن يتعلم أولادهم الانحناء لغير وجه الله ، وكان هؤلاء الأولاد أكثر براً بآبائهم من أولئك الذين أرغموا على تقبيل الأيدي ركوعاً ، لأن برّ الولد لوالده لايكون التعبير عنه بهذه الصور التي تزرع في الأنفس بذرة الخضوع ، بذرة تكبر مع الأيام ليتعلم الولد معها الخضوع لكل صاحب فضل عليه ، ألم يقل ذلك الشاعر الغبي : "من علمني حرفاً كنت له عبداً" !! ، أي معلمين هؤلاء الذين لايحسنون إلا تخريج أمة من العبيد ؟؟ ، لو كانوا معلمين حقا لعلموا الناس كيف يرفعون رؤوسهم ويعرفون كرامتهم الإنسانية ويرفضون الذل والهوان.
من أين أتينا بكل هذا الحجم من بذور المهانة في نفوسنا ؟! كنت أتحدث إلى احدى السيدات "المثقفات" والتي تعمل في سلك التعليم وكانت قد خطبت لابنها ، ومازحتها بالقول لعلك سترغمين كنتك على تقبيل يدك ؟ فأجابتني دون لحظة تفكير : بل إنها ستفعل رغم أنفها ، وكما أرغموني ثلاثين عاما على تقبيل يد حماتي فستقبل يدي حتى أموت !..سألتها: وكيف درّست خلال ثلاثين عاما من عمرك لطلابك "إذا بلغ الفطام لنا صبي ...تخر له الجبابر ساجدينا"؟ ، قالت : ذلك كلام كتب ، وماعلاقة ذلك بهذا؟!.
عندما نجد العلاقة المتلازمة بين ذلك وهذا فإننا سنتمكن حينئذ تماما من معرفة سرّ سقوطنا المدوي اجتماعيا وسياسيا وقبل ذلك وبالطبع إنسانياً.
تحويل النصوص إلى وعي حقيقي بروح النصوص في حياتنا المعاصرة ، والارتفاع بهذا الفهم إلى مستوى الاسلام كما نزل ومايتطلبه العصر ، القضاء على هذا الانفصام في الشخصية الذي يعانيه الانسان في المنطقة العربية ، وإيجاد العلاقة الحقيقية بين الاستبداد السياسي والاستعباد الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان في هذه المنطقة ، وإعمال العقل ليتوقف عن هذا القياس العقيم الذي نستخدمه في كل شؤون حياتنا لتمرير الواقع من خلال النص تبريراً لما وجدنا عليه آباءنا من عادات وتقاليد ، لن تخرج هذه الأمة من ثقب الإبرة التي تحيك سرابيل تخلفها بها إلا يوم ترُدّ ثقافاتها إلى حضارتها وتعرف البون الشاسع بين المرجعيتين.