الإسلام، والحكام، ونظرية المؤامرة، ثلاثة "عقد فكرية" رئيسية تستخدمها العقلية السائدة في المنطقة العربية اليوم كخيال المآتة الذي يُبَرِر من خلاله الجميع تقصيرهم وعجزهم وحماقاتهم، أو كالمشجب الذي يعلقون عليه كل معضلات الأمة.

هذا التركيز العجيب على الحكام –وحدهم- وأدوارهم في تخريب المنطقة إنما هو أمر مبالغ فيه وبكل الاتجاهات، لأنه يمكن لحاكم معين أن يحكم شعبا ما لمدة خمسين عاما بالنار والقتل والإرهاب، ولكن لايمكن لحاكم أن يستمر في حكمه لهذا الشعب بهذه الطريقة من خلال أولاده مالم تكن بذرة العبودية متجذرة في قلوب الأجيال التي يحكمها تتوارثها أباً عن جد، الديكتاتور يورث ابنه كرسي الحكم والأموال التي نهبها من شعبه وسياط الجلادين، والشعب يورث أبناءه وبنفس الطريقة القدرة على الصمت والهوان والمهانة والركوع بين يدي الحاكم الجديد.

لم نؤت إلا من عند أنفسنا، عندما تتربى الأجيال على العزة والكرامة ورفع الرؤوس وقول كلمة الحق بالغاً مابلغ الثمن الذي يمكنها أن تدفعه في سبيل هذه الكلمة في البيوت أولا وفي المساجد ثانيا وفي الحياة العامة ثالثا، فلن يستطيع ظالم أن يتمكن من الرقاب، عندما يعرف الناس حقوقهم وواجباتهم ولايشعرون بالعبودية إلا لخالقهم فإن الحرية تنتقل من كونها أساطير في بطون الكتب لتصبح طريقة حياة.

يثير تفكيري كثيرا ماأراه وماأشاهده في أوربة اليوم مما يفضح شخصايتنا المقهورة المَرضية الاستبدادية ، فمراقبة الحراك الاجتماعي والاداري والسياسي لدى مختلف الجاليات المهاجرة من المنطقة العربية والمقارنة بينها وبين المهاجرين من مناطق أخرى من العالم يمنحك قدرة مذهلة على ضبط الأمراض الاجتماعية والانسانية الخطيرة المنتشرة بيننا حيث تمثل هذه الجاليات عينات اجتماعية ممتازة للدراسة والرصد ، نفس الأشخاص الذين كانوا في مرحلة من المراحل قد فروا من بلادهم بسبب من الظلم السياسي ، نفس هؤلاء الذين كان معظمهم قد حصل على لجوء سياسي في حينه في البلدان الأوربية، نفس هؤلاء الأشخاص -عندما تمكنوا-  مارسوا مع بقية أفراد الجالية التي ينتمون إليها جهارا نهارا نفس السلطة الاستبدادية التي مارسها حكامهم عليهم من قبل، الالتصاق بكراسي السلطة بالغة مابلغت من التفاهة ولمدد تطاول الثلاثين عاما، تشويه الحقائق، تزوير الانتخابات داخل المؤسسات الاسلامية، الاعتماد على من "يستخفونهم" من أهل الولاء، التأصيل لأجهزة استخبارات خاصة بهم من بين أبنائهم أو أبناء الجالية، والتعامل المباشر مع أجهزة استخبارات البلد المضيف خاصة بعد انتشار موجات مايسمى بمكافحة الارهاب، الاستيلاء على السلطات الصغيرة أو الكبيرة التي توليها إليهم دولهم أو الدول أو المنظمات الأوربية، تلبسهم روح الفردية وقتل العمل الجماعي وإبعاد المنافسين وعدم تقبل النقد واعتباره مسألة شخصية، تدبير المؤامرات في الخفاء والاقتتال سرا وجهرا على هذه السلطات وعلى المكاسب المترتبة عليها وتكريسها للأسر المسيطرة التي يريدون لها مع الأيام أن توازي في البلد الأصلي الأسر الطائفية أو الأسر المالكة، توريث المناصب لأبنائهم وأقربائهم وترك مصائر الجاليات الاسلامية بأيدي هؤلاء الأولاد الذين نشأوا وهم يعتقدون أن آباءهم من سلالة الآلهة وأنهم يتمتعون بحق إلهي وراثي يخصهم من بعدهم، ومعظم هؤلاء –وللأسف- ينتمي إلى التيارات الاسلامية المعروفة في أوربة كما في بلادنا، حقيقة علينا الاعتراف به ولاينكرها إلا مكابر! وتنتشر هذه الأمراض في طول أوربة وعرضها لاتقتصر على جماعة واحدة ولامؤسسة بعينها ولا انتماء دون انتماء! ولم يسلم من هذه الجرثومة إلا القلة القليلة ممن رحم ربي وممن يعدون في كل أوربة على أصابع اليد الواحدة ، فعن أي حكام نتكلم؟؟! إذا كانت بذرة الفساد والاستبداد منتشرة سرطاناً نحمله جميعا في أحشائنا، هاجرنا هربا منها فإذا بنا متلبسين بها لاتفارقنا!.

المشكلة الرئيسية التي نعانيها في حياتنا الاجتماعية هي ذات المشكلة التي تسلخ جلودنا سياسيا، إنها مشكلة ضياع الرؤية تماما "إنها لاتعمى الأبصار"، إنها مشكلة التركيز على "المنهج" ونسيان أن المنهج لايغير شيئا مالم يغير الناس ما بأنفسهم. بل إن أقسى مايواجهه "الاسلام" كدين ومنهج وحضارة في أيامنا العجاف هذه إنما جاء من هذا العسف والظلم المركب وضياع الرؤية لدى كثير من المنظرين و"المتكلمين في وسائل الاعلام" الذين يخلطون بين الفعل الانساني والمنهج ، كثيرون يلقون اليوم باللائمة على الاسلام ونصوصه في كثير من المعضلات التي تعيشها الأمة، وكثيرون يكرسون من خلال وسائل الإعلام العربية الأهم هذه الأفكار التي تتحدث عن قرون من الظلم والدمار والانحطام في حياتنا السياسية، وعن تركة ثقيلة تمتد إلى عصور الأمويين الذين كانوا يريدون لهم أن يكونوا ديمقراطيين على الطريقة النمساوية اليوم!! .

هناك حلقة مفقودة يجب على سكان "المنطقة العربية" أن يجدوها في طريقهم للبحث عن مخرج، هذه الحلقة تتلخص في الإنسان وليس في المنهج، في أنفسنا وليس في الدين الذي نعتنق ، في فهمنا للنص وليس في النص المقتطع من سياقه التاريخي والانساني، في قدرتنا على الاستيعاب والاستفادة من هذا الكنز الحضاري الانساني العظيم الذي لم نعرف في القرنين الأخيرين كيفية الاستفادة منه.

عندما تعاني الحركات الاسلامية بالذات – كما يعاني غيرها من الحركات اليسارية والتيارات العلمانية - في بلدان المنطقة العربية وفي المهجر من نفس أمراض الطبقة الحاكمة في المنطقة فلأن هناك خللا عظيما في تشكيل "العقل المسلم اليوم" وليس في الاسلام، ولأن حصن شخصية المواطن في المنطقة العربية كان قد دُكّ من الداخل بسبب اهيار العملية التربوية، وليس بفعل المؤامرات الخارجية التي ماكان لها أن تؤثر في الحدث لولا أن وجدت حصونا هشة متآكلة منهارة .

تقول الباحثة في علوم تربية الجماعات البشرية والتربية المقارنة "سلام ادلبي" من جامعة الكومبليتنسة في مدريد : "إذا كان هذا "الاسلام" هو ذاته الذي صنع أمة من لاشيء قبل أربعة عشر قرناً، وأسس دولة خلال ثلاثة وعشرين عاما امتدت فيم بعد لتستوعب حضارات وأقوام وجماعات انخرطت تحت لوائه في أغلب الأحيان سلماً كما يشهد التاريخ ورغم أنف الذين يتحدثون عن سيوفنا الدامية المشَرّعة!، إذا كان هذا هو "الاسلام" الذي صنع الرجال العظماء الأشداء الرحماء من أمثال عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي المشهود لهم بين أمم الأرض بذل ، وهو نفس "الاسلام " الذي منح المرأة ولأول مرة في التاريخ حقوقها الانسانية كاملة وبوأها مكانة عظيمة عرفت بها من بخارى إلى قرطبة، وإذا كان هذا هو نفس "الاسلام" الذي علم الانسان أن يرفع رأسه فكرمه وأعزه بإنسانيته، فكيف يمكن أن يكون اليوم سبب انهيار هذه الأمة وتفسخها وسقوطها الحضاري ؟!  أما وأنه لاشك في أن "الاسلام"  هو أحد أهم المناهج التربوية الانسانية على مرّ العصور – رضي من رضي وأبى من أبى- فإن المعضلة تكمن بين جنبي الانسان المسلم والذي يجب أن لايبحث عن الحل إلا في نفسه".

وعودة إلى المرايا غير السحرية، علينا أن نعيد النظر في أنفسنا لنعرف أين الخلل فإننا لم نؤت إلا منها، ماكان لحكامنا أن يستبدوا بنا لولا أن الاستبداد كان جنينا زُرع  في أحشائنا وحَبلت به الكروش المنتفخة بانتظار ولادة ما، ولولا ذلك الاستعباد والقهر واستلاب الشخصية التي ربينا عليها أبناءنا في أحضاننا منذ ولادتهم، ماكان للمؤامرات الخارجية الدائبة أن تهز هذا الجبل لو أنه تحصن بزراعة أشجار تقيه العواصف وتحفظه من أن يصبح مرتعا للطامعين.  

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية