لعلنا الأسرة السورية الوحيدة في كل أرجاء المعمورة التي لم تتابع مسلسل «باب الحارة» الذي عُرض رمضان الماضي، وملأ الدنيا وشغل الناس إلى درجة أن إحدى العائلات الصديقة كانت قد دعتنا إلى تناول طعام الإفطار، ثم تركتنا في حيص بيص الإفطار وذهب القوم للجلوس متسمِّرين أمام «باب الحارة» كأن على رؤوسهم الطير! من دون أن ينتبهوا إلى أن ضيوفهم قد تُركوا وحدهم على مائدة الإفطار.
كنا نتناول إفطارنا ونحاول فهم ما يجري: صراخ ومشادات وألفاظ قبيحة، وانتفاخ غير مبرر للأوداج، وخروج للعيون من محاجرها بطريقة تهريجية غبية، وضرب ورفس وصفعات تنهال على وجوه النساء والرجال، وإهانات غير مفهومة للنساء وكلمة «اخرسي» تتردد من دون توقف من أول الحلقة إلى آخرها داخل البيوت، تلازمها كلمة «اخراااااس» -هكذا- للرجال في الحارة، و «كبير للقوم» لا ندري من عَينه ليكون كذلك، ولا الصفات الحقيقية التي أهلته ليكون كبيرا للقوم، اللهم إلا انتفاخ الأوداج والتجبر على الناس واحتقارهم وفرض نفسه بالقوة. ونساء ملتحفات بالسواد يدخلن ويخرجن في حركات تنم عن الهوان والمذلة، وبنات في البيوت لا يتجرأن على أن ينبسن ببنت شفة أمام إخوانهن من الذكور الآمرين الناهين، الذين يتعاملون معهن معاملة السيد المطلق الآمر للعبد الضعيف المهان.
نساء بالغات عاقلات يتعاملن مع بعضهن البعض بلغة الشتيمة المقززة، وألفاظ السوقة المبتذلة، وشدّ الشعر والضرب والمبالغة في انتهاك كل ما يمكن أن يتعارف عليه بنو البشر من أخلاق وسلوك ولياقة.. أولاد شوارع أولاد تلك الحارة! بل إن من يمكن للمرء أن يسميهم «أولاد شوارع» كانوا لينأون بأنفسهم عن مثل تلك السلوكيات المغرقة في الانحدار والارتكاس.
كل ذلك في حلقة واحدة فقط من حلقات «باب الحارة» التي ازدردت شيئا منها مع ذلك الإفطار الذي صرف مضيفينا عن أن ينتبهوا إلى وجودنا في بيتهم.
لم أكن وحدي من استهجن هذا الذي رأيناه وتحلق الناس حوله مأخوذين، ولكن أولادي من ذكور وإناث استهجنوه مثلي. وخرج ابني الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره وهو يقول لي: لقد رأيت «مذبحة قبيحة تهافت الناس عليها كالمجانين، بينما لم أرَ فيها إلا رفسا وضربا وعنفا واحتقارا للأمهات والأخوات وقمعا للرجال»! وهكذا أصبحنا الأسرة السورية الوحيدة في العالم التي لم تستسغ باب الحارة ولم تستطع احتماله، ولم نشاهد منه حلقة واحدة حتى هذا الأسبوع.
قلت في نفسي: لعلي أظلم القوم، فلا يمكن أن تجتمع أمة «الشاميين» -سوريين وأردنيين وفلسطينيين ولبنانيين- على باطل! وينبغي على مثلي ممن يكتب في صفحات الرأي أن يفرغ من وقته لرؤية هذه العجيبة الإعلامية التي قامت القيامة بسببها ولم تقعد. كما أنني خشيت أن أفقد «الجنسية السورية»، والحق يقال، بسبب انصرافي عن هذا الإجماع الشغبي –بالغين- غير المسبوق! فلقد عجزتُ في الجالية «المصونة» من حولي أن يتابعوا «التغريبة الفلسطينية» أو «صلاح الدين الأيوبي» أو «عصي الدمع» أو «قضية نسب»، وجميعها مسلسلات مذهلة من حيث الكتابة والتأليف والحوارات الداخلية الرائقة والإخراج الممتاز ومعالجة القضايا السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية والتربوية للأمة، ولم يكن هناك من فائدة! ولا أدري ماذا وجد الناس في «باب الحارة». فجلست هذا الأسبوع أتابع بعض حلقاته مرغمة تحت ضغط الجمهور والحملة الإعلانية لقناة «أم.بي.سي» التي استضافت بطلي المسلسل في حلقة جميلة لامعة ترويجا للجزء الثالث من المسلسل في رمضان المقبل، فوجدت العجب العجاب، مما أكد ملاحظاتي الأولى كلها حول هذا المسلسل، مع التأكيد وبالدرجة نفسها على أهلية الممثلين الذين قاموا بأدوار لا تليق بمعظمهم في هذا المسلسل. فعباس النوري وسامر المصري ممثلان سوريان قديران، يتمتعان باحترام الجمهور ومحبته، ولم يكونا بحاجة إلى دخول مثل هذه المعمعة الشعبية غريبة الأطوار ليصبحا نجمين لامعين.
الشيء الذي خرجتُ به بعد متابعة بعض حلقات هذا المسلسل هو الشعور بالخجل، ومرتين. المرة الأولى وأنا أرى هذا المسخ العجيب الذي يختزل حياة الناس في بلدي دمشق إلى مجموعة من السلوكيات الهمجية في البيوت مع الأبناء والنساء وخارج البيوت، بتطبيق حكم القوي الغني على الضعيف الفقير، أي بالسوري غير الفصيح «حكم قراقوش»! بذرة الاستبداد التي تعيشها المنطقة العربية وجدَت لها كل المبررات في هذا المسلسل الذي اعتبره الناس فتحا غير مسبوق في تاريخ الفن! وذلك رغم مئات الملاحظات الفنية البحتة على الحلقات القليلة التي شاهدتها! إضافة إلى انتفاء حكم العقل والقانون والمنطق والإنسانية، وحتى الدين في حياة هذه المجموعة من «الأوباش» الذين أرفض أن يمثلوا بلدي سوريا ولا مدينتي دمشق ولا حتى حارة فيها، مع الاعتراف الكامل بأن هذه السلوكيات في التعامل بين الناس هي عرف سائد في سوريا حتى يومنا هذا! بل إن كثيرين أخذوها معهم في جيوبهم وحقائبهم لدى مغادرتهم البلاد نحو المهاجر والمنافي، فلغة الحوار الوحيدة هي لغة العنف، لا حوار على الإطلاق، وكلمتا «اخرس» و «اخرسي» هما السائدتان في الحياة، ولا عمل للمجموعة إلا خنق حرية الأفراد سلبا وإيجابا، والقضاء المبرم على قدرة الفرد على النمو والتحصيل، والعمل الحثيث باسم التكاتف والتعاون على إعدام «الجو والفراغ» الإنساني اللازم والضروري للأفراد ليتحركوا كالبشر وينتجوا كالبشر وينموا كالبشر.
لكن «باب الحارة» أخجلني ثانية وأنا أرى مؤسسات إسلامية، كمجمع «كفتارو» في دمشق أو «قناة المنار»، تكرم مسلسلا بهذا الشكل! في حين لم ينل مسلسل كصلاح الدين الأيوبي ولا عُشر هذا التكريم بما اشتمل عليه من فكر ديني تجديدي مذهل وتربوي غير مسبوق. ثم زاد الطين بلة قيام مجموعة كبيرة من الكتاب الإسلاميين بمدح المسلسل، والخوض فيما خاض فيه الناس من أنه يكرِّس العادات والتقاليد. ولا أدري عن أية عادات وتقاليد يتكلم القوم! ولا عن أية شهامة ورجولة إذا كانت الرجولة تُختصر بتمرير بعض الأخلاق الحميدة في شدة وصرعة وصفع الوجوه وحل المشكلات بـ «العلقات» الساخنة التي يمنحها أحد وجوه القوم لأحد سفهائهم! عن أية عادات وتقاليد يتكلمون؟! فإذا كانت هذه هي عاداتنا وتقاليدنا، فإننا والله نستحق أن نكون في ذيل الأمم، كما ينبغي علينا أن نتوارى من الأمم خجلا من أنفسنا وتاريخنا!
لكن ما يدعو للأسف والخجل حقا هو هذا الإقبال الأعمى من قِبَل الناس على المسلسل، بل واعتباره مسلسلا إسلاميا يحفظ للأمة هويتها -هكذا!- لا أدري كيف يمكن أن تُذل امرأة مثل «فريال» بين يدي «أبوشهاب» بهذه الطريقة لتعتذر إليه وكأن الدنيا خلت من الكرامة والمروءة والشهامة والرجولة! ولا أدري كيف يقع اللوم على المرأة نفسها لدفاعها عن عرض ابنتها عندما اتهمها زوجها وأمه في عرضها وشككا بحملها منه! لا أدري كيف يمكن لشعب كامل أن ينساق بهذا الشكل المَرضي خلف حصة تلفزيونية تقدم له تاريخه مختصرا في حارة أغلقت الباب على قاذوراتها الثقافية! لا علم ولا سياسة ولا ثقافة ولا فكر ولا تربية، اللهم إلا الاستبداد ولا شيء غير الاستبداد الذي اختصر الشعب إلى متسلِط ومتسلَط عليه، واختصر التاريخ إلى مرايا نرى فيها قبح أنفسنا ونكتشف من خلالها مَن نحن وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من ذل وتخلف وهوان، لأننا كنا نسكن تلك الحارة مرة، ولأننا لم نصنع إلا أن بدلنا «شراويل الحارة» بالسراويل الغربية، ولأننا تمسكنا بأعراف الحارة وسكننا الحنين إليها وإلى قيمها الخرقاء التي حبست الأمة مئة عام خلف باب موصد على عفننا الاجتماعي ورؤيتنا المصابة بالحول للإنسان والتاريخ والأخلاق وأنفسنا.