"اللى ع البر عوّام".. هذه هى الزاوية التى ينظر منها البعض لقضية "الرؤية" المثارة حالياً وبقوة، وحاضرة بسخونة فى المشهد الاجتماعى فى مصر.
فمولد سيدى الرؤية، هو برأيى من أكثر الموالد الغائب صاحبها بالفعل، "الأبناء" الذين يبدو لهم هذا المولد بلا حمص، وبلا أى فائدة.
فمن يريد أن يرى من؟ ومن لا يريد أن يرى من؟ ولماذا لا يراه؟ أو لا يسمح له قانونياً أن يراه؟، وهل الرؤية هى المشكلة أم أنها دخان لنيران من ورائها؟ أسئلة منطقية، وإجابات كذلك، سمعتها فى مناقشة مثيرة أقيمت بالمركز المصرى لحقوق المرأة مؤخراً، من المحامية نهاد أبو القمصان، ومحاميات أخريات بعضهن مررن بتجربة الطلاق نفسها، فأضفن إلى الخبرة القانونية خبرة إنسانية بالشأن موضوع المناقشة.

فى قضايا الأحوال الشخصية ترى وتسمع العجب.. ترى كلمات تناقض الأفعال، وتسمع كلمات ليس لها علاقة بالأفعال.

فهذا مشهد لأب لا يريد الإنفاق على أبنائه، ويقف أمام القاضى ليثبت أنه معدم ومن مستحقى الصدقة، وهو ليس هكذا نهائياً، وهو مع ذلك يطلب استضافة ابنه لا لشىء سوى الكيد لأمه، زوجته سابقاً، وهذا مشهد لأب آخر قام بطرد أولاده وأمهم من منزل الحضانة ليتزوج فيه، وهو نفسه يقف مطالباً بالرؤية والاستضافة، بينما من يريد رؤيتهم أو استضافتهم "فى الشارع" فهل تراهم يريدون رؤيته؟!

ومن أمثلة الأسئلة وإجاباتها التى ربما لا يحتاج القارئ الذكى لـ "تغشيشه" إجاباتها فتقول: لماذا ننخدع بعينة من الآباء يدّعون هدر أبوتهم بعدم السماح لهم باستضافة الأبناء، بينما هم قد أضروا بأبنائهم عن طريق امتناعهم عن الإنفاق، وادعاء الفقر؟

كيف لأب لم يقم بمسئولياته التى أقرها الشرع والقانون، أن يطالب بحقوقه، وهو لم يؤدى الواجبات بدعوى أنه ليس حصّالة؟!

ولماذا تتم الاستهانة بالحصّالة الآن؟ ألا يعلم هؤلاء الآباء أن توفير احتياجات الصغار المادية من الأهمية بمكان، وأن قيام الأب بهذا الدور الرئيس يقرب أبناءه منه ويحببه إليهم؟ وهو دور يقربه من الله، فهذه خير نفقة ينفقها الفرد "وخيرهما الذى تنفقه على أهلك".

ألا تعنى كلمة "بابا" فى الأسر العادية التى لم يصيبها داء الطلاق، "الأمان الاقتصادى"؟.

ألم تقل المرأة التى تنازعت وزوجها الأبناء بعد الطلاق لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: "إن ضممتهم إلىّ جاعوا، وإن ضمهم إليه ضاعوا"؟.

شخصياً أعرف أمهات يتعاركن مع أزواجهن "الآباء"، لأن الواحد منهم لا يعرف عما إذا كان ابنه بأى صف دراسى، مكتفياً بدور الحصّالة، وما إن يحدث الطلاق فى الأسرة نفسها حتى تجد الأب نفسه يتعالى على أن يظل حصّالة؟! لتتحول الأم إلى دادة، وحصّالة وكل شىء.

الأب الذى تتم شكايته و"جرجرته" إلى المحاكم.. ألم يحدث له هذا نتيجة تقصيره وتنصله من المسئولية؟ أليس هذا التصرف كفيلاً بزرع بذرة عدم الثقة به لدى الحاضنة وتوجسها الدائم من تصرفاته حيال الأبناء؟!.

أثناء الإعداد لملف "أمهات بـ 100 راجل"، الذى نشر بالعدد 22 من اليوم السابع قابلت أمهات أرامل علقن صورة الزوج وعليها شريط أسود، وربين أولادهن وفاء لأمومتهن ولهؤلاء الأزواج، وقابلت أمهات هجرهن الأزواج أو طلقوهن فربطن الشريط الأسود على قلوبهن، وربين أولادهن وفاءاً لأمومتهن, وقابلت أخريات فجعن الفاجعة نفسها، وربين أولادهن ولم يربطن أشرطة من أى لون على قلوبهن، أى أن ردود الأفعال اختلفت، ولكن رد الفعل تجاه الأبناء لم يختلف على كل الأحوال.

وكان الحديث مع أبناء هؤلاء النساء الأمهات من أكثر الأجزاء أهمية فى اللقاءات التى تمت من وجهة نظرى، لاحظت أن أبناء الأرامل والمطلقات كانوا على درجة كبيرة من الوعى بما قامت به أمهاتهن، ولكن الأسى فى نبرة أبناء المطلقات كان كبيراً، ملامح الوجه لديهم، وعلى الرغم من أنهم كبار ومتزوجون، كانت تقول سؤالاً قاله أحدهم صراحة "هوه شكل الدفء الأسرى إيه، ويعنى إيه، إحنا كنا بنسأل نفسنا السؤال ده وإحنا صغيرين، خصوصاً لما نشوف أسرة فيها الأب مع الأم".

عندها عرفت أنا لماذا يهتز العرش لوقوع هذا الحدث بالأسرة، فالألم لا يمس شخصين وفقط، وإنما أرواح أخرى ليس لها أى ذنب.

فى حين قرأت لأحد الصحفيين ممن مرّوا بتجربة الطلاق، مقالاً يدعو فيه إلى التطليق ولو كان هناك أطفال، إذا ما زادت الزوجة الملح فى الطعام أو "شاط" منها "الرز"، مدعياً أن الله أمر بهذا؟!

لا شك أنه من المؤسف أن تجد أصحاب الكلمة يستهينون بالكلمة، ولا شك أن هذا الصحفى الجاهل سيحمل وزر عدد من الرجال قرأوا مقالته واقتدوا به، فشردوا أطفالهم ثم وقفوا فى طابور الرؤية، وفى يوم القيامة يقفون فى طابور آخر ربما يحرمون فيه من رؤية وجه الله!

قرأت لصحفى آخر يصف "متشحتفاً" حالة لمنعه من رؤية ابنيه بحكم من المحكمة، قائلاً "وكانت المشاعر السوداء والقلوب المتورمة لمطلقتى وأبيها من مغذيات كراهية أولادى لى"، وهنا سمعت تعليقاً لنهاد أبو القمصان.. تقول "نفسى أعرف الراجل ده عمل إيه فى مراته خلاها تحس تجاهه بكده"، وأضيف إلى نهاد، أننى أول مرة أسمع فيها أن المشاعر سوداء، وعلى فرض أن هناك مشاعر سوداء، فلماذا لا نتساءل.. كيف تحولت من "بمبى.. بمبى.. بمبى" وقت إنجاب الصغار إلى سوداء مرة واحدة "كدهه"؟!

ولماذا لا يتورم قلب الأب لابنته وقد سلمها لرجل بكراً رشيداً، وأنجبت له البنين والبنات، ثم سلمها الرجل له مرة أخرى حاملة للقب العظيم؟

كثيرون هم من يتبعون خطوات "شيطان الأسرة" ثم يجرجرون إلى "محاكم الأسرة"، كثيرون هم من يستهينون بآلام أبنائهم، الذين تغور الأرض من تحت أقدامهم عند انفصال أبويهم ولا يكتفون بهذه المصيبة، بل ويضيفون كوارث أخرى بعدم تحملهم ضريبة هذا القرار المؤسف.

كثيرون هم من يعتقدون أن قرار الانفصال بسيط، غير مقدرين لعواقب فصله وهدمه لكل شىء مادى ومعنوى، فالانفراط لا يأتى على عقد الزوجية فحسب، وإنما يطال الأمومة، والأبوة، وكل شىء.

كثيرون هم من يعدمون أبناءهم، ثم يطلبون المشى فى جنازاتهم، وبدعوى الحق!.

كثيرون هم من يعقون أبناءهم قبل أن يعقوهم، ويسيئون إليهم قبل أن يقابلهم الأبناء بالإساءة.

الآباء يريدون الاستضافة.. فهل سأل أحد نفسه "ماذا يريد الأبناء"؟!.

الأبناء يريدون "أسرتهم" التى لا يعوضهم عن فقدها لا رؤية ولا استضافة ولا مصاحبة قارون، وإن تعذر فعلى الأقل يريدون أن يكون لهم آباء ليست فيهم الصفات ولا الأفعال أعلاه!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية